شعار قسم مدونات

رابعة.. الحد الفاصل بين "مِصْرين"

مدونات - رابعة

تمر علينا هذه الأيام الذكرى السنوية الرابعة لأبشع مجزرة في تاريخ مصر الحديث، مجزرة فض اعتصامي "رابعة" و"النهضة" في يوم 14 أغسطس 2013م، ليصبح فعلياً هذا اليوم الذي وصفته صحيفة "الإندبندنت" البريطانية بأنه "يوم العار في مصر"، الحد الفاصل بين "مِصْرين"، فمصر بعد هذا التاريخ ليست مصر التي كانت من قبله، ورغم مرور 4 سنوات لكن مسلسل الدم الممزوج بالقهر والظلم والقتل والانتهاكات مستمراً وبصور مختلفة ومتعددة.

مخطئ من يحاول الفصل أو لا يدرك قوة الرابط وحتميته بين المشاهد المروعة والمرعبة في مجزرة فض اعتصامي "رابعة" و"النهضة" وبين مشهد 3 يوليو 2013 لحظة قيام قائد الانقلاب العسكري "عبد الفتاح السيسي" بإلقاء بيان الانقلاب محاطاً بشخصيات سياسية وعسكرية ودينية تم انتقائها بعناية والحرص التام على ظهورهم بجواره والمشاركة في البيان في رسالة موجهة للخارج أكثر منها للداخل، في محاولة لإظهار الأمر وكأن بيان الانقلاب هو نتاج مطالب شعبية في ثورة 30 يونيو المزعومة، وليس غطاءاً لهدم وتدمير أول تجربة ديمقراطية حقيقة في مصر معبرة عن إرادة الشعب المصري عقب ثورة 25 يناير 2011 وإيذاناً بعودة العسكر ثانيةً لتصدر المشهد السياسي بعد تخليهم عنه مؤقتاً بضغط شعبي أجبرهم على الانحناء قليلاً لتمر العاصفة، وضحوا برأس الدولة العميقة المخلوع "حسني مبارك" حفاظاً على بقية الجسد سليماً ليعود للحياة مجدداً للتمتع بامتيازات امبراطورية العسكر التي تم بنائها على مدى أكثر من ستة عقود منذ الإطاحة بالملك "فاروق" ثم الرئيس "محمد نجيب".

مصر قبل المجزرة كان ساحة خلاف سياسي وشد جذب بين سلطة شرعية منتخبة وأحزاب وفصائل سياسية معارضة لتتحول بعد المجزرة إلى ساحة اقتتال واستئصال سياسي

مذبحة "رابعة" و"النهضة" كانت حتمية ولو لم يعتصم أنصار الرئيس "محمد مرسي" لبحث عنهم العسكر وجمعوهم بأنفسهم وبشتى الطرق والوسائل وقاموا بذبحهم وحرقهم لتنفيذ الصدمة الدموية والمدوية المطلوبة لإخماد النفوس الثائرة المتعطشة للحرية، ولإدخال طوائف الشعب المصري المختلفة في صراع مجتمعي يشغلهم ببعضهم البعض، مما يمنح الفرصة للنظام العسكري للاستفراد بالفصائل والحركات السياسية الأخرى وفي مقدمتها تلك التي ساندت الانقلاب نفسه والتخلص منها واحدة تلو الأخرى.

 

ليتفرغ "عبد الفتاح السيسي" ونظامه لتنفيذ المهمة الموكلة إليه من قبل موكليه وداعميه الإقليميين والدوليين من تفتيت وهدم لمصر والإجهاض الكامل لثورات الربيع العربي، بعد نجاحه في تنفيذ انقلابه، وتوجيه ضربة موجعة وقاسية لجماعة "الإخوان المسلمين"، كونها العثرة والعقبة الواقفة في وجه العسكر للسيطرة الكاملة على الدولة المصرية، نظراً لما تتمتع به من تعاطف وتأييد شعبي أجبر النظام العسكري على التفاهم معها ومنحها مجبراً هامشاً من الربح السياسي في أحيان كثيرة، وتمكنها من الفوز بكل الاستحقاقات الانتخابية بعد الثورة ووصول الرئيس "محمد مرسي" أحد أفرادها لحكم مصر في نهاية الأمر.

 

وهو ما كان بمثابة الإنذار بالخطر لو استتب الأمر ودارت عجلة الديمقراطية وتداول السلطة، وفي نفس الوقت المؤشر بأنه قد حان الوقت المناسب للقضاء على الجماعة بشقيها السياسي والدعوي بصفة نهائية، أو إنهاكها وإجبارها على الانكفاء على نفسها لفترة طويلة في أقل التقديرات لتقوم بتضميد جراحها واستعادة تماسكها ولم شتاتها.

مصر قبل المجزرة كان ساحة خلاف سياسي وشد جذب بين سلطة شرعية منتخبة وأحزاب وفصائل سياسية معارضة في مناخ ديمقراطي وسقف إعلامي مفتوح بدون خطوط حمراء لم يسبق له مثيل بشهادة المعارضين أنفسهم، لتتحول بعد المجزرة إلى ساحة اقتتال واستئصال سياسي وانشقاق مجتمعي مصبوغ بصبغة الدماء المحرمة التي أريقت وما تزال في نهر من الكراهية والاستقطاب، والذي يحرص السيسي ونظامه على جريانه ليبني على ضفافه أركان مشروعه الرامي لإفراغ مصر من كل مضمون لمصطلح الدولة، وتحويلها لإقطاعية خاصة يتصرف فيها كيفما شاء ويتنازل عن أراضيها ومقدراتها القطعة تلو الأخرى وفاءاً لديونه نحو من دعموه وأوصلوه لكرسي الحكم على أشلاء المصريين ودمائهم، فقد ولى زمن تلقي الدعم بدون حساب وحان وقت القبض ودفع الثمن.

مجزرة "رابعة" و"النهضة" ودماء شهدائها كانت بمثابة رسالة من النظام العسكري المصري وبإيعاز من داعميه لشعوب المنطقة والمراقبة باهتمام لما يحدث في مصر "قاطرة الأمة العربية" بأنه لا فرق بين أن تعارض بصوتك سلمياً أو ترفع في وجه النظام سلاحك ففي كلتا الحالتين سيتم سحقك وقتلك بلا رحمة وبلا هوادة.

مجزرة
مجزرة "رابعة" و"النهضة" كانت الشرارة الكبرى والإيذان بالبدء في المعركة الأخيرة للنظام العسكري التي لو خسرها لن تقوم له قائمة بعدها.

مصر قبل المجزرة وقبل 3 يوليو كان شعبها ينظر للمستقبل بشيء من الأمل رغم صعوبة الواقع، ويحلم بغدٍ أفضل يتمتع فيه المصريين بحقهم بالعيش الكريم وتتحقق فيه مطالب ثورة يناير "عيش، حرية، عدالة اجتماعية"، لتتحول بعد المجزرة الى شبه دولة تتشح بالسواد الممزوج برائحة الدم ويرزح مواطنوها تحت عبء ثقيل من القهر واليأس والعجز وتتردد في جنباتها أنات المغيبين خلف قضبان المعتقلات لتختلط بصراخ الثكالى من اهالي الشهداء ومن يلقون حتفهم يومياً بطرق الموت المختلفة والتي تلاحق المصريين أينما كانوا بفضل فساد منظومة العسكر، لتمتزج معها زفرات الألم والحسرة لمن اضطروا للهرب والنجاة خارج البلدة الظالم حكامها وتتعالي فيها صرخات المصريين من هول ما يرونه من تفاقم للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية والخدمية وارتفاع جنوني للأسعار في غياب تام لأي رؤية أو استراتيجية تنم عن أي تحسن أو انفراجة للوضع القائم والقاتم.

مجزرة "رابعة" و"النهضة" كانت الشرارة الكبرى والإيذان بالبدء في المعركة الأخيرة للنظام العسكري التي لو خسرها لن تقوم له قائمة بعدها والتي حتمت عليه الخروج من خلف الستارة ونزع القناع كاشفاً عن الوجه الحقيقي والذي أخفاه طويلاً مستتراً بمندوب عنه في قصر الاتحادية يدير شبكة من خدم للسلطة في كافة مؤسسات الدولة وقطاعاتها، ولكن هذه المرة بقواعد مختلفة، القتل والتغييب وإخراس المعارضين بشتى الطرق أهم اسلحتها وتفتيت وتشويه وهدم مؤسسات الدولة ونسف ثقة المصريين فيها أهم أهدافها، وإغراق مصر بالديون والتنازل عن مقدراتها وثرواتها، وتقسيم الشعب المصري إلى طبقات وطوائف مختلفة ومتمايزة كلياً ضمن كانتونات وجزر منعزلة أهم استراتيجياتها.

مجزرة "رابعة" و"النهضة" كانت الحقيقة الكاشفة والحد الفاصل الذي فضح وبشكل واضح ولا يقبل الشك كل المتآمرين على الثورة المصرية داخلياً وخارجياً وأحرق ورقة التوت التي كان يتغطى بها الكثيرون من أنظمة وأحزاب ونخب تدعي التحضر والتمدن وتتشدق زوراً بالديمقراطية والحقوق والحريات، رابعة والنهضة وضعتا مقياساً جديداً وخاصاً بهما وحدهما هو مقياس "الإنسانية". تخسر الشعوب أحياناً جولات أمام الطغاة لكن أثبت التاريخ دوماً أنه في النهاية لا بد للشعوب أن تنتصر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.