شعار قسم مدونات

كن كهربجيّا

blogs كهرباء

يقال أن الإنسان يكتسب بعض صفاته من اسمه أو من التضاريس التي يعيش عليها أو من طبائع الأسرة والمقربّين وأصدقاء الطفولة. وبالتأكيد فإن الحقل الذي يختص فيه كمهنة أو دراسة ستؤثر في سلوكه وطريقة تفكيره لتلائمها؛ فرقّة المشاعر لا تناسب القصّاب، وقلة الصبر لا تناسب الخبّاز. لذلك فليس هنالك شك بأن من توافقه قدراته الفطرية اختصاصه سيكون ناجحا سعيدا بالعمل، ومن لا يختار تخصصه أصلا قد يعاني بحسب بعد شخصيّته عن احتياجات الحقل الذي يحترفه، أو قد تتغير شخصيّته تماما ويبقى في معاناة وصراع داخلي قد لا يكون دائما سلبيا. 

وإذا تناولنا الاختصاصات المختلفة والآثار التي تتركها على أبنائها، لوجدنا آثارا إيجابية كثيرة، يكتسبها العامل أو المتعلم بدون أن يشعر أحيانا، وهذه الصفات الإيجابية ليست حكرا على أحد، فالحكمة ضالة المؤمن وهو أحق بها حيث وجدها.

في حالتي، نشأت كل الأفكار السابقة في محاولة الإجابة على سؤال طالما خطر لي. ما العلاقة بين المهندسين والثورات؟ لماذا نجد كليات الهندسة في طليعة النشاطات الثورة في مختلف الدول الثائرة؟ لماذا يسهل على المهندس أن يتشرّب الثورة وأفكار الحرية وكأنه إسفنجة وأو مادة سريعة الاشتعال تنتظر شرارة؟، وهل أكون متحيّزا حين أقول أن أبناء الهندسة الكهربائية نشط من غيرهم في هذا المجال؟ قد لا يكونون كذلك لكن هؤلاء هم أكثر من أفهم كوني واحدا منهم.

يعرف الكهربجي حق المعرفة أهمية القوة الدافعة والزخم الثوري، فوجود حقل كهربائي (ثوري) يوحّد حركة تلك الجسيمات الثائرة في اتجاه واحد ويحوّلها من جسيمات لا قيمة لها إلى "التيار" الذي غير وجه هذا العالم وصيّر ليله نهارا مضيئا

"الكهربجيّة" لفظ أطلقه ثوار كلية الهندسة الكهربائية والإلكترونية في جامعة حلب على أنفسهم بعد نشاطها الثوري الملحوظ، حتى سماها البعض عاصمة جامعة الثورة، وللمفارقة، ففي كل ثورة تمر بالجامعة لا بد أن نسمع عن اسم كلية الهندسة الكهربائية!  في حلب كان هتاف "هييي كهربجية" من أشهر هتافاتهم التي كانت تميّز مظاهراتهم الحاشدة التي حيّرت الأمن في الحرم الجامعي المغلق. فما السر وراء كون الكهربجي جاهزا للثورة بطبيعته؟ 

ربما لأن الكهربجي يتذكر في كل لحظة أن الإلكترونات التي كانت موجودة منذ الأزل لم يكن أحد يعرف بوجودها أو يعيرها اهتماما. هي جسيمات سالبة الشحنة متناهية الصغر تتحرك بعشوائية ولا تبدي أي تأثير. ولو تنبأ أحدهم في الماضي أن هذه الجسيمات الضئيلة ستغيّر مجرى العالم لما صدّقه أحد، ومن كان ليتنبّأ بهذا أصلا؟ لذلك لا تؤثر بالكهربجي عبارات مثل "لا يمكننا" و "لا نستطيع" و"هذه الأمور أكبر منا".

يعرف الكهربجي حق المعرفة أهمية القوة الدافعة والزخم الثوري، فوجود حقل كهربائي (ثوري) يوحّد حركة تلك الجسيمات الثائرة في اتجاه واحد ويحوّلها من جسيمات لا قيمة لها إلى "التيار" الذي غير وجه هذا العالم وصيّر ليله نهارا مضيئا. كما يعرف أيضا أن التيار لن يمر في طريق مقطوع، فاكتمال الدارة ومعرفة الطريق هي شرط لمرور ذلك التيار الذي يعرف طريقه دون وسائل الإرشاد. 

التيّار المار ستزيد شدته عندما تكون أمامه مقاومة ضعيفة، أما حين تكون المقاومة وقوى القمع أمامه كبيرة فقد ييأس الجاهل؛ أما الكهربجي فيعلم أنه دوما يوجد حل، فيصير إلى زيادة القوة المحركة والزخم بدل الاستسلام. وفي نفس الوقت يدرك أن بعض أنواع الممانعات (كالمكثفات) لا تجدي معها زيادة الزخم، فيزيد من "التردد" بدل إضاعة الوقت في زيادة "المطال".

ومن يعرف مثل الكهربجي أن بعد الثورة ثورات في عجلة لا تتوقف ؟!، فبعد ثورة اكتشاف التيار أصبحت قيمة المواد الناقلة أعظم ولا يكترث بأنصاف النواقل، لكن من عرف أن الإلكترونات نفسها لم يكن لها قيمة وجد فيما بعد قيمة أنصاف النواقل التي شكلت ثورة داخل ثورة نقلت الحياة إلى مستوى أعلى. التيار الكهربائي الذي غير حياة الإنسان ورفع رفاهيته إلى مرحلة لم يكن حتى ليتخيّلها هو قاتل لو خرج من الأسلاك وسار في طريق خاطئ. لذلك نجد الكهربجي مدركا تماما لقيمة التنظيم وأخذ الاحتياط وسبل الأمن والسلامة. 

ويرى الكهربجي أن التيار الكهربائي الذي استعمل في البداية لإنارة الليل ونشر النور قد تطور منه فيما بعد علوم تقنية عديدة صار بعضها اختصاصات قائمة بحد ذاتها، مثل هندسة الحواسيب والمعلوماتية، التي أخذت الإنسان إلى بعد آخر وسهّلت حياته وعمّرت أرضه، لكن بدون وجود ذلك التيار الكهربائي الثائر فكل تلك الأجهزة ستكون عبارة عن خردة، والتيار الذي يمر في أجهزة مهندسي المعلوماتية لا يكترث لهم عندما يتأففون من دروس الهندسة الكهربائية في مقرراتهم. 

هل شعور الكهربجي بحاجة إلى ثورة على نظامه التعليمي المهترئ يجعله يشعر بحاجة إلى الثورة أكثر؟ يمكن أن ندّعي ذلك!، فليس من المستغرب أبدا أن يجد الثورات قريبة إلى قلبه وأن يتآلف معها فورا

ثورة الكهرباء والثورات التقنية التي حلت بعدها لم تكن تبعد الإنسان عن عالمه ومحيطه دائما، بل دفعت العاقلين لفهمه أكثر، فها هي الأنظمة الحديثة تستفيد من أسراب النحل والنمل في تطوير خوارزميات تحل مشاكل الإنسان وفي نفس الوقت يستعمل بعض الظالمين مزايا تلك الثورة وتضحيات الإلكترونات في تطوير ما يقتل البشر ويعزز الديكتاتوريات كالطغاة المتشدقين بالثورات وهي تلعنهم كل يوم. 

يعيش الكهربجي بين كل تلك الصفات والأفكار، ويعبر عنها بالمعادلات وبالأمثلة وبالدارات، وحين يحب اختصاصه ودرسه بقلبه كما بعقله، يجد فيه النفائس حتى لو كان النظام التعليمي يحتاج إلى ثورة، وبالمناسبة: هل شعور الكهربجي بحاجة إلى ثورة على نظامه التعليمي المهترئ يجعله يشعر بحاجة إلى الثورة أكثر؟ يمكن أن ندّعي ذلك!، فليس من المستغرب أبدا أن يجد الثورات قريبة إلى قلبه وأن يتآلف معها فورا.

 

وليس الإنسان بحاجة لأن يدرس هذا العلم حتى يتحلى بتلك الصفات، خاصة أن جلّ المعلومات المذكورة هنا هي من الأساسيات البسيطة التي يمكن أن يفهمها حتى غير المختصين. لكن واجب المختصين هو أن يستنبطوا كل هذه الإيجابيات لغيرهم حتى ينتفعوا من تلك القصص ويكونوا "كهربجيين" في حالتنا. وأؤمن أنه في كل اختصاص إيجابيات تقع في العمق لا يصل إليها إلا من غاص في اختصاصه ولعل من واجبه إخراج تلك الدرر للناس حتى ينتفعوا منها، أليس هذا هو التفكّر الذي أُمرنا به؟ فحاشى لله أن يخلق كل هذا عبثا. ليكن فينا خير المهندسين والأطباء والمعلمين، حتى نكون بحق تتفكر فيما حولها فتستفيد منه وتعمر الأرض به وتحارب الظلم من خلاله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.