شعار قسم مدونات

أحبّوا النّساء لذواتهنّ

blogs الحب و الانجذاب

كان حديث "حُبِّبَ إليّ من دنياكم ثلاث: النّساء والطيب، وجُعلت قرّة عيني في الصلاة" مثار تأمّلٍ لدى بعض أئمّة التصوف والفقه، منهم الإمام الصوفي محيي الدين بن عربي (ت 638 هـ) ومنهم الفقيه الأصولي، الشريف التلمساني (ت 771 هـ). ولكلّ منهما آراءٌ لطيفةٌ في كون النّساء أوّلُ هذه الأمور الدنيوية الثلاثة التي حُبّبت إلى النبي، صلّى الله عليه وسلّم.

 

يبني محيي الدين بن عربي الفصّ الأخير من "فصوص الحكم" والذي عنونه بـ"فصّ حكمةٍ فرديّة في كلمة محمّدية" على حديث التحبّب. وذلك لعظم شأن "الحبّ" في الفلسفة الصوفيّة، خاصّة عندما تكون على غير قصد الفاعل. وعند الصوفية، اللهُ فاعلُ كلِّ شيءٍ على الحقيقة. فهذه الثلاثة إذن: النّساء والطيب والصّلاة من "باب المحبّة التي هي أصل الموجودات" كما يقول ابن عربي.

 

يرى ابن عربي أنّ عين ذات المرأة متأخرّة في الظهور عن عين ذات الرّجل. واللافت هنا أنّ ابن عربي لا يذكر مطلقًا الأثر الذي ينصّ أنّ المرأة خُلَقت من ضلعٍ أعوج. وهي إشارة، تبدو لي، تعني رفضه لما ينبني على هذا الأثر من تصورات تتعلّق بالمرأة.

 

ولكنّ ابن عربي يقرّ بتأخر المرأة في الظُهور، ومن هنا ذُكرت "النّساء" في هذا الحديث، ولم تُذكَر "المرأة" فالنّساء، وهو الجمع الذي لا فرد له من جنسه، مشتقة من النّسيء وهو التأخّر. يقول ابن عربي: "ابتدأ بذكر النّساء وأخّر الصّلاة وذلكَ لأنّ المرأة جزءٌ من الرّجل في أصلِ ظهور عينها."

حبّ المرأة للرجل من باب
حبّ المرأة للرجل من باب "حنين الشيء إلى وطنه" والوطن هنا أصل الإنسان. فالمرأة تحنّ للرجل لأنّه أصلُها، والرجل يحنّ للمرأة لأنّها مشتقّة عنه

ويتكلّم ابن عربي عن الخلق، والنّفخ من الرّوح، وأنّ الله خلقَ الإنسان على صورته. وهذه الفكرة، أي خلق الإنسان على صورة الخالق تردّدت كثيرًا في الفلسفة الوسيطة، ومنها الإسلامية والمسيحية. ويواصل ابن عربي هذه الفكرة قائلاً أنّ المرأة خُلقَت بعد ذلك على صورة الرّجل. يقول: "ثمّ اشتقّ له منه شخصًا على صورته سمّاه امرأة. فظهرت بصورته" وهنا يقفز ابن عربي مباشرة إلى تفسير حبّ المرأة بأنّه من "باب حنين الكلّ إلى جزئه" ومن باب "حنين الشيء إلى نفسه." فالمرأة مكمّلة للرجل ومحبَّبة إليه لأنّها اشتُقّت منه وظهرت على صورته.

 

 أمّا حبّ المرأة للرجل فمن باب "حنين الشيء إلى وطنه" والوطن هنا أصل الإنسان. فالمرأة تحنّ للرجل لأنّه أصلُها، والرجل يحنّ للمرأة لأنّها مشتقّة عنه، في نظر ابن عربي. يقول: "فما وقعَ الحبّ إلاّ لمن تكوّن عنه، وقد كان حبّه لمن تكوّن منه وهو الحقّ"

 

ولأنّ المرأة حُبّبّت للرجل من هذا الباب، طلب الرّجل "الوصلة" وهي التي تتحقّق عبرَ "النّكاح" كما يقول ابن عربي. ولأنّ النّكاح هو وصلة الحبّ فإنّ الشهوة تعمّ أجزاء الرّجل كلّها، ولذا فالغسل واجبٌ لجميع البدن. ويقول ابن عربي أنّ غياب هذا المعنى الوجودي في اللقاء الحميمي بين الرجل والمرأة يحيله إلى "صورة بلا روح." فروح النّكاح إذن هو شهود هذا المعنى الإلهي.

 

وإذا كان ابن عربي، قد استند إلى فلسفة صوفية ترى أنّ المرأة مشتقة من الرجل في أصل الوجود، وأنّ أصل حنين كليهما إلى بعضهما، هو من باب حنين الكلّ إلى الجزء وبالعكس، فإنّ الشريف التلمساني لا يستند إلى هذه الفلسفة مطلقًا في تفسيره لهذا الحديث، بل يستند إلى وقائع مباشرة من سيرة النبي صلّى الله عليه وسلّم.

 

يقول الشريف التلمساني أنّ في الطيب والنساء حكمة روحانية؛ ولذلك خُصّا بالذّكر من بين سائر "المحبوبات الجسمانية." ويقول الشريف أنّ لفظ "حُبّبَ" أبلغ من لفظِ "أحبّ" أو "أحببتُ" وأنّ لفظَ "حُبّبَ" لم يرد في حديثٍ سوى متعلّقًا بهذه الخصال الثلاثة.

 

ولمحبّة النّساء، في نظر الشريف التلمساني، حكمتان. أوّلهما، الحكمة التي تتعلّق بالنّكاح الذي يحفظُ "النوع الإنساني" فقد جعل الله النساء محلاً لحفظ النّوع، ومن هنا كانت محبّتهن، فهنّ سبب لـ "الإيجاد." يقول الشريف التلمساني: "بل في النّكاح خلافة ربّانيّة في إيجاد الأشخاصِ الإنسانية، وذلك بالتخلق باسمه الخالق" ويجعل التلمساني فهمَ هذه الحكمة وقصدَها سببًا لاعتبار فعل النكاح عبادة.

 

 كما أنّ هذه الحكمة هي علّةٌ لبعض الأحكام الفقهية، فيقول التلمساني أنّ النّكاح على التحقيق هو فرض كفاية، من جهة اعتبار حكمة حفظ النوع الإنساني، ولكنّ أهل العلم جعلوه مندوبًا إليه، "وذهب الحنفية والحنابلة إلى أنّ النّكاح أفضل من التحلّي بنوافل الطّاعات." بل يرى الشريف أنّ فعل النّكاح وما يأتي بسببه من إيجاد أكملُ من حفظ الموجود مثل "إنقاذ الهلكى" على سبيل المثال. يقول الشريف: "الإيجاد أنفع من الإبقاء وأقوى في التشبّه بالخلق الإلهي."

النّساءُ يُحببن لذواتهن، لأجل هذه الرقّة والرحمة والرأفة التي يتحلّين بها
النّساءُ يُحببن لذواتهن، لأجل هذه الرقّة والرحمة والرأفة التي يتحلّين بها

الحكمة الأولى إذًا هي حكمة كون النّساء محلاًّ للإيجاد. وهذا المعنى هو ما وجده رسول الله صلّى الله عليه وسلم في السيدة خديجة، رضي الله عنها، التي رزق منها الولد، وحُرم منه من سائر نسائه.

 

أمّا الحكمة الثانية في محبّة النّساء فهي حكمة متعلّقة بـ "ذوات النّساء" أي للنّساء بدون النّظر إليهنّ أنهنّ محلّ الإيجاد. وهنا يردف الشريف التلمساني، عبارته بقوله "فتأمّل!" وهي الكلمة التي تُكتب عند خفاء المعنى. يقول الشريف: "ففي ذلك سرٌ يقنع منه الذكيّ بالتلويح ولا ينتفع فيه الغبيّ بالتصريح."

 

ما هذا السرّ الذي يرى الشريف أنّ الذكي سيفهمه بمجرّد التلويح، ولن يفهمه الغبي وإن صُرّح به؟ يقول الشريف أنّ أشخاص النّوع الإنساني معارجَ للترقّي ومزايا للتحلّي. والنّساء، كما يقول الشريف "أرقّ قلوبًا وألطفُ شمائل" ولذا فهنّ أقرب إلى الرّحمة والرّأفة من الرّجال، وهنّ سبب ترقيق قلوب الرجال، وتلطيف شمائلهم. يقول الشريف: "فهنّ عند العلوق بهنّ يرقّقن من طبائع الرّجال ما غَلُظَ، ويلطّفن ما كَثُف، لا سيّما عند كمالهنّ."

 

النّساءُ يُحببن لذواتهن، لأجل هذه الرقّة والرحمة والرأفة التي يتحلّين بها. ويقول الشريف أنّ "المحبّة الذّاتيّة" هي المعنى الذي وجده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في السيدة عائشة، التي لم يمتنع الوحي أن يأتي رسول الله في ثوبها، فكانت معاونة للنبي في مقاصد الدارين. أحبّوا النّساء لذواتهنّ، كما يقول الشريف التلمساني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.