شعار قسم مدونات

أيها الكاتب.. تمهل!

blogs كتابة

كثيرون حول الأدب، قليلون حول الجوهر

مع ازدياد أعداد الأقلام العربية الشابة، واتساع رقعة مواقع التواصل الاجتماعي واعتبارها منبر من لا منبر له، منبر لكل من هبّ ودبّ أن ينثر فيها ما فاضت نفسه، وما اختلج شعوره وأوحى له خياله، أصبحت أرى أن أدبنا في انحدار، فمثلنا كمثل السوق، كلٌّ يعرض فيه بضاعته، ومن البضاعة ما هو غالٍ وثمين لا يطاله إلا مقتدر، ومنها ما كان بثمن بخس، فكلماته معدودات لا يربطهنّ رابط يشعرك أنها تحمل معنى مفيد بين طياتها.

 

وغالبًا ما يُسّوق "مُدّعي الكتابة" لأنفسهم بجلب الأنظار حولهم عبر الكتابة عن الحب بشكل ظريف المظهر، وكلمات معسولة، ونهايات تشبه الأفلام الهندية، كي يستطيب بها فؤاد القراء السذج. كفانا ابتذالًا في كتابة الحب، أجمل الحب ما كان سماويًا، ولم تطأ قدماه الأرض، فما نلبث حتى نشبهه بعلومنا الدنيوية ونقحم القوانين العلمية فيه، فنشبهه بتصادمات الفيزياء المرنة وعديمة المرونة، أو بروابط الكيمياء الأيونية والتشاركية، أو أنه صعب كمعادلة رياضية معقدة.

إن أجدر من كتب الحب هم الأقدمون، فانظر إلى أشعار الجاهلية في جزالة مفردات عشقها!، ومن بعدهم من الأمويين والعباسيين، انتهاء بالموشحات الأندلسية التي أضفت على الأدب العربي رونقًا تطيب له النفوس وتطرب، ثم انظر إلى عمق الرافعي وبلاغته، فلسفة جبران، المنفلوطي في كآبته، وكل من كان في جيلهم، فما أجمل جلال الدين الرومي في نثره الذي كان جليًا فيه أنه ثائر على المسافات، مؤمن بحب الأرواح!، والشعراء كثر كانوا من أعطوا الحب حقه ومستحقه، أمثال قباني وأسلوبه السهل الممتنع، في كثير من قصائده تبدو لك كلماته بسيطة، ولكن بها من العمق حد الدهشة والبلاغة، وغيرهم من الشعراء ذي الأسماء اللامعة الناصعة في عالم الأدب الذين لا يسع المقام لذكرهم والتغني بجودة أدبهم.

علينا أن نتفق سويًا أن ليس كل من امتلك مقدرة على صياغة كلمات، يليق به لقب كاتب، ولا كل ما كُتِب هو نص!، فليس كل ما يلمع ذهبًا، فكثير من مدعي الكتابة يغريك بكلماته المعسولة ومظهرها الظريف، ولكن فحواها تافه لعين.
علينا أن نتفق سويًا أن ليس كل من امتلك مقدرة على صياغة كلمات، يليق به لقب كاتب، ولا كل ما كُتِب هو نص!، فليس كل ما يلمع ذهبًا، فكثير من مدعي الكتابة يغريك بكلماته المعسولة ومظهرها الظريف، ولكن فحواها تافه لعين.

 

فمن نهل من منهلهم العظيم وتشرب روح الأدب وبلاغته وجعل منهم قدوته التي يحتذي بها، فليكتب ما شاء الله له أن يكتب، لذلك عزيزي القارئ، علينا أن نتفق سويًا أن ليس كل من امتلك مقدرة على صياغة كلمات، يليق به لقب كاتب، ولا كل ما كُتِب هو نص!، فليس كل ما يلمع ذهبًا، فكثير من مدعي الكتابة – كما قلت – يغريك بكلماته المعسولة ومظهرها الظريف، ولكن فحواها تافه لعين، ولا ننسى في المقام الأول أن أحد أهم أسباب تردي الأدب العربي اليوم هو العناوين الزائفة، يأتي لك كاتب بعنوان عجيب غريب لافت للأنظار، فيتدافع عليه بعض من الناس من كل حدب وصوب، ووالله ان تتبعت موضوع الكتاب لتجدنه وضيعًا ليس به أي منفعة، حشوٌ فارغ يحشو به الكاتب أتباعه فلا تراهم الا مصفقين مشجعين!

 

لماذا لا نوقف هذه المهزلة الأدبية، ونمنع صعاليك الأدب من الكلام؟!، بدلًا من تشجعيهم على سفاسف كتابتهم!، أما على الجانب الآخر فترى من امتلك موهبة حقيقية في الكتابة، يسارع ليحظى بلقب كاتب، فبعد أكثر من نص قد مدحه فيه الجميع، يفكر فورًا في أن يكتب كتابًا، يُحوّل فيه منشوراته على فيس بوك إلى صفحات ورقية بين يدي الناس، فيفسد على نفسه موهبته.

 

عليك أن تعيش دهرًا في بدايات الأدب حتى حداثته فتزود رحالك من جماله، وتخلي عنك قبيحه، وإلا فلا تكتب. والكتابة يا صديقي هي بحر عميق لا تخض عبابه وأشرعتك ممزقة فتغرق فيه

ما بالنا لا نتمهل؟، لماذا لا نعد إلى "الألف" قبل أن نفكر بخوض تجربة الكتابة؟، إن الكتابة الصادقة ترجمان صادق لا يخون ولا يخطئ، فما بالنا اليوم ننزلها منازل دنيا!، وللكتابة فنون ومذاهب وشروط، فالقراءة النهمة من أهم أسباب الكتابة الناجحة، وكما قال يحيى حقي: "الكتابة الأدبية ناجمة عن شعور داخلي، ولكن علينا ألا ننسى الطلاء الخارج المتمثل بالاطلاع والثقافة"، وما أراه الا قوًلا صادقًا لا عيب فيه، فامتلاكك للخامة الأدبية لابد من ترصيعها بجواهر الثقافة الجمة، وعليك أن تعيش دهرًا في بدايات الأدب حتى حداثته فتزود رحالك من جماله، وتخلي عنك قبيحه، وإلا فلا تكتب.

 

والكتابة يا صديقي هي بحر عميق لا تخض عبابه وأشرعتك ممزقة فتغرق فيه! وإنّ أكثر ما يصيبني بالإحباط والاشمئزاز في آن، هم من اتخذوا الكتابة سلعة لكسب رزقهم، يا ويلنا!، أو يأتي علينا زمان نبتذل في الكتابة حتى نملك قوت يومنا؟!، ويجدر بي في الختام أن أنوه أنني في مقامي هذا لا أدعو إلى نبذ الحب أو تجنبه في الكتابة، فمن رأى نفسه أنه يرفع الحب منازلًا عليا ويضعه موضعه الصحيح فليكتب، وإنني أيضًا لا أنفي جمال الكتابة في عصرنا الحالي، فكثير من الأقلام الشابة اليوم يمتلكون حظًا وافرًا من جمال القلم وحِرَفيّته ويصوغون كلماتهم بنغم كأن الواحد منهم قائد أوركسترا في مسرح أوبرا.

 

ولنا في أدبنا العربي اليوم أسماء يجب أن تكتسح الساحة وتحظى بأعلى قراءة، منهم من وافتهم المنية ومنهم من أمد الله في عمره كي يزودنا من شهده العظيم، أمثال غسان كنفاني، رضوى عاشور، أحلام مستغانمي، سحر خليفة، إبراهيم نصر الله، فاروق جويدة، مريد البرغوثي وابنه تميم، واسيني الأعرج، أيمن العتوم، أدهم الشرقاوي، سعود السنعوسي، خولة حمدي، وكثير ممن سطروا بحبر حروفهم أجمل الكلمات وخطوا أهم أفكار، ممن كان لهم عظيم الأثر في ابقاء راية الأدب العربي مرفرفة بمواضيعهم الرائعة .فليدم القلم أسمى ما نملك وليسلم الأدب الرفيع من الأذى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.