شعار قسم مدونات

حِينَ يأبَى القَلم

blogs - يد تمسك قلم حبر
إنّ الكَاتِب يرَى نفسَهُ بوُضُوحٍ في مِرآة الأبجَديّة، يَتَعرّى من مِثَاليّتهِ أمَام الحُرُوف، يَقُول كُلّ شَيء دُون أَن يَلحَظَ العَالم المَدى الوَاسِع في صَوته، ودُون أن يَنبِس هُو بِبِنتِ شفَة. لكِن لاَ شَيء يُقلقُه أكثَر من أن يَكُون عَاجزًا في يَومٍ مَا عَن جَرّ سَاقِ الأبجَديّة، أن تَنسَاهُ ذَاتَ يَومٍ… يَلُوكُ الحَكَايَا في رأسِهِ دُون أن يسْطِر منهَا حَرفًا، وهُو الذي اعتَادَ أن يقُولَ نفسَه، أن يَكتُبَ رُوحَه، ويمسَحَ عَن قَلبِهِ بيَدِ اللّغة، فيطوفَ به الصّمتُ وتكسِرَهُ النّصُوص دون أن يصوغ منهَا شيئًا، بعدمَا كانت تُنقذُهُ الكتابة.

كأن تكُون في عَتمَة طَويلَة، فَارغَة من كُلّ شَيء، إلاَ مِنكَ، ذِهنٌ في أقصَى حَالاتِ التّشتُّت، مِزَاجٌ في أكثَر حَالات الصّعُود والهُبوط، أصَابعٌ تُنازعُ الفَراغ لتَخلقَ نصًا مَا، لا يُهمُ أيّ نصٍ سَتكتُب المُهم أن تَصرخَ، لأنّك تشعُر بالمَلل من كُلّ ما يُحيط بك، الأشخاصُ مُملّين وفُضُوليّين أكثر ممّا تستحمِلهُ رُوحُك، صدرُك تخنقُه العِبَارَات، والكَلام! مجرّد الكَلاَم مُتعِبٌ جدًا… تتركُ نَفسَك تَنصَاع لذلك الإغراء، تظنّ أنّ حالتَكَ أشبه بلَحظَة مَخَاضٍ لميلاد نَصٍ فريدٍ من نَوعِهِ، تَدُور بين فُتَات اللّغَة مثلَ أصَابع نَحِيلة لا تقوى على حَملِ كَلمَة، تَمرّ السّاعَات دُون أن تُدركهَا، يكادُ اللّيلُ يرحلُ آخذًا معه صَمتكَ المَجازيّ، وقد بلّلت نَسَائم الفَجر زُجَاج النافذة، تستقرُّ عَينَاكَ على الوَرقة، لازَالت بيضَاء! هيَ فَارغَة منكَ، اليَوم خَانتكَ يدُكَ.

تطبَعُ اللّغة قبلتَهَا الشّرسَة على جَبينِ روحِكَ، تُخرجُ لكَ لِسَانَهَا من بَعيدٍ وتَركُضَ هاربَة، فَترمِي أنتَ بجسمِكَ المُنهكِ على السّرير وتستلقي مذكّرتك على صَدركَ… طِيلة اللّيل دقّ النعَاس والتّعَب على بَابكَ مِرَارًا وتكرارًا لكنّك قاوَمتَ، علّكَ تَجد ولو كَلمَة وَاحدة تَصِف تلكَ الفَوضَى مِنَ المَشَاعِرِ بدَاخلِك، لَكِن للأسَف لم تُفلِح كلّ تلك اللّغَة المُترَاكمَة فَوقَ أصَابعِكَ في كَنسِهَا، لأوّلِ مرّة لم تُنصِفكَ الكتابة!

من الضّروريّ أن نكونَ متصَالحِين مع النّقصَان الذي يَعتَري لُغَتنَا، فلاَ نُجيدُ التَّعبيرَ عَمّا بدَاخلنَا، أن تَضيعَ منّا أبجَديّتُنا في حِين كنّا يومًا ما نوَاجِه تَقَلّباتَنَا المزَاجِيّة كلّهَا بجُيوشٍ كَاملَة من الأبجَديّة التي تقِفُ ورَاءَنَا.

حَسنًا، أحيانًا كثيرةً نَستَطيعُ صِيَاغَة انتصَاراتِنَا وانتكاسَاتنا، أفرَاحَنَا وأحزَانَنَا… وكلّ حَالاتِنَا بعِبارَاتٍ صَريحَةٍ أَو خَجُولة، كَلمَاتُها تُضمِرُ الكَثير، لكن قد تأتي علينَا لَحظَات لا نَجِد لا الحُروف ولا العِبَارات اللاّزمة، تخُوننَا الأبْجَدِيّة فَجأة، نُصَابُ بجَفافٍ في أصَابعِنَا، حَدسِنَا، لُغتنَا… وكُلّ ما كَان يقودُنَا للكتَابة.

تِلكَ المَشَاعِر التي تنتَابُنَا ولا نَجدُ لَهَا فِي قامُوسِنَا اللّغوي تَسمِيَةً ولا تَوصيفًا دَقيقًا شَافيًا، تَفرِضُ عَلَينَا سُلطَتَهَا، ربّمَا هُنَا يُصبُحُ علَينَا أَن نُربّي أروَاحَنَا على هكَذَا لحَظَاتٍ تُبَاغِتُنَا، فنقتَنِصَهَا، نَعْتَقِلُهَا ونَعِيشَهَا بِحَدسٍ كَامِل دُونَ الحَاجَةِ إلَى تَرجَمَتِهَا إلى كلِمَات.. رغمَ أنّ الإبقَاءَ على تَوَازُنِنَا وهيَ تَجتَاحُنَا أمر بمُنتهَى الصّعوبة.

فَمن أهمّ مفاتِيح التّعَامُل مع الحَياة، هي تَسمِيَة الأشيَاء والحَالاتِ بأسمَائِهَا الصّحيحَة، فمُنذُ أن نَفَى الله آدم منَ الجنّة إلى الأرضِ، حَبَاه شيئًا واحدًا، يَستَعِينُ بِه على العَيشِ في عَالمِه الجَدِيد المُوحِش، ألا وهُو معرفَة أسمَاء الأَشيَاءِ المَوجُودَة، قَالَ عَزّ وجَلّ: " وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا"، وكَذَا القُدرَةُ عَلَى ابتكَار أخرَى ستُوجَدُ لاَحقًا، كَمَا هُوَ حَالُنَا اليَوم مَعَ هَذَا الكمّ الهَائِلِ مِنَ الإختِراعَات و التكنُولُوجيَا، فمَثلاً لاَ يُمكِنُ لشَخصٍ أن يَشتَرِي شيئًا لاَ يَحمِلُ إسمًا، سيَتعَبُ فِي وَصفِهِ كمَا قَد يَعجَزُ عَن إيجَادِه، ولاَ للطّبِيبِ أن يَصِفَ الدّوَاء دُونَ تَشخِيصِ الحَالَةِ، ومَعرِفَةِ المَرَض. تخيّل عَالمًا كَامِلا دُونَ مُسمّيَات، سَتَعمّ الفَوضَى لا محَالة! تمَامًا كَمَا يحدُثُ فِي دَوَاخِلِنَا.

إنّ المَشَاعِرَ التي أقصِدُهَا هُنَا هِي تلكَ التي تَملِكُ قُدرَةَ استثنائيّة على شلّ مَركَزِ تَولِيدِ الأسمَاءِ فِي عُقُولِنَا قَبلَ أن تَعيثَ فِيهِ فسَادًا، تَمَامًا كَمَا يَقطَعُ عصَابةٌ مِنَ المُجرِمِينَ التيَّارَ الكَهرَبَائي عَن مُنشَأةٍ مَا قَبلَ أن يُهَاجِمُوهَا، لِذَلِكَ من الضّروريّ أن نكونَ متصَالحِين مع النّقصَان الذي يَعتَري لُغَتنَا، فلاَ نُجيدُ التَّعبيرَ عَمّا بدَاخلنَا، أن تَضيعَ منّا أبجَديّتُنا في حِين كنّا يومًا ما نوَاجِه تَقَلّباتَنَا المزَاجِيّة كلّهَا بجُيوشٍ كَاملَة من الأبجَديّة التي تقِفُ ورَاءَنَا، أن نكُون على يقين مُسبق أنّ اللّغة التي نتَبَاهَى بهَا قَد تَضجُر ذاتَ عُزلة، تفتَح البَابَ الرّمَاديّ وتفرّ مِن أصَابعنَا… إلَى أين؟ إلى غير وِجهَة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.