شعار قسم مدونات

هكذا بدأت..

blogs - قلم و ممحاة
زمن الطفولة، كنت أحتفظ بــ "أعقاب الأقلام" لسنوات طويلة، أخبئ كسر الممحاة، وفتات الخشب من قلم الرصاص الأبيض، وكنت أحتفظ بــقطعة طبشور أهداني إياها المعلم في الحصة السادسة قبيل العطلة، و"الحلوة" الأخيرة التي اشتريتها من مصر، وفي الأخير.. كلها كانت محفوظة في كيس قماش كانت قد أخاطته لي أمي قبل دخولي المدرسة لأجمع فيه توفيري وحاصل جمع "عيديّاتي".. لكنه ظلّ خيمة لجوء للأقلام المتقزّمة ووسادة لقطــَع الممحاة التي قضمت وغفرت جُل أخطائي وذابت، وطبشورة التكريم العفوي و"الحلوة" التي فضّلتُ بقاءها على تذوّقها.

لم أكن أعرف أن هذه العناصر المخبأة بكيس القماش، ستولد منها خلطة الكتابة.. لم أكن أعرف أن الكتابة تولد من رحم الخوف وصلب الخجل فتخرج صارخة عالية تسمع الدنيا كلها، كل ما كنت أعرفه أني أخاف أن أضحّي بأقلامي القصيرة حتى لا تسخر منها الأشجار العالية، وأخاف أن أرمي ممحاتي في الطريق فتبردُ وتعاني وحشة الليل، كنت أخاف أن تدوس الأحذية قطعة الطبشور فتتألم أصابع أستاذي، أو آكل "حلوتي" فيحزن الورق الملوّن الذي يغلّفها، لذا لم أفرط بكنوز طفولتي حتى كبرت.

من هنا بدأت أكتب، من هذه الأشياء البسيطة، من هذه التفاصيل المهملة، ولأن الكتابة تولد من رحم الخوف وصلب الخجل فقد كنت أواري كل ما تخطّه يداي في نفس الكيس السرّي، قصاصات ورق، بعض النزق، بوحي للشتاء الذي يتأخر حتى يطرق شبّاكنا، إلى أمي المثابرة بين فرن الطين ووعاء العجين بين ماكنة الخياطة لتعيد إنتاج قمصاننا وإصلاح سطح البيت حتى لا يفسد الدلف أحلامنا، بدأت أكتب لكل الذين أشتاقهم وأخشى البوح لهم… فكان "كيسي" مستودع أسراري وقصر القماش الذي تبات فيه أشيائي الصغيرة دون حراسة أو بوابات شاهقة، لا شيء يحرسه سوى خيط حرير يغلق فم الكيس كي لا يبوح بعرق الممحاة ولا ببياض الطبشور وأقلامي السبعة.
 

عام على "التدوين" مع الجزيرة، عام على "تدوين" الفرح والحزن والعروبة المقطّرة بالدمع والدم، عام على تبسيط الأوجاع لتصبح أقل إيلاماً، وعلى تكثيف الأحلام لتصبح أكثر إيلاماً.

بقيت سنوات طويلة، أخاف عندما أكتب، وأخجل أن يقرأ غيري كلامي، وبقيت أكتب للعتمة ولكيس القماش الطري، لم أكن أعرف أن الأقلام والممحاة والطبشور هي عتاد الكاتب الأبدي، هي أدواته التي لن تخذله مهما كانت قصيرة أو منسية، حيث تستيقظ التفاصيل من رؤوسها وتغرّد الأفكار البريّة المجنونة..

أخيراً، صرت كاتباً في جريدة، وبدأت تحمل مسننات المطابع ثرثراتي كل يوم ويحمل الباعة كلامي على الإشارات الضوئية ويتمدد رأيي بكل استسلام تحت وجبة الطعام لأسرة فقيرة أو يساهم في تحسين الرؤية من زجاج البيت المرتفع، فالتوضيح الوحيد الذي تفعله صفحات الجرائد هو توضيح زجاج البيوت.

قبل عام تماماً كتبت مقالتي الأولى في "مدونات الجزيرة" كان اسم المقال مقامرة حرّية، كان الخوف من المقال الأول، يشبه الخوف الأول في الخروج من البيت، والخوف الأول لدخول المدرسة، والخوف الأول لقيادة السيارة، صحيح أني كاتب ممارس منذ 14 عاماً في جريدة الرأي الأردنية.. لكن هناك تكمن تفاصيلي، تألفني لغتي تطيعني مفرداتي مثل الخشب في يد النجار.. هناك كنت أحسّ أنني في كيس القماش حيث تحملني ذكرياتي وأحملها، لكن مدونات الجزيرة، نافذة كبيرة على خارطة واسعة، قرّاؤها من الوطن العربي كله، هنا لا أستطيع أن أقدّم نفس الوجبة والقارئ مختلف.. لا أستطيع أن أفتح كافتيريا تبيع وجبات "محلية" في مدينة عالمية.. لا بدّ من لغة مختلفة وطريقة تحضير مختلفة وطريقة تقديم مختلفة أيضاَ.. باختصار كان لا بدّ من كيس قماش جديد يحمل التفاصيل الجديدة.

عام على "التدوين" مع الجزيرة، عام على "تدوين" الفرح والحزن والعروبة المقطّرة بالدمع والدم، عام على تبسيط الأوجاع لتصبح أقل إيلاماً، وعلى تكثيف الأحلام لتصبح أكثر إيلاماً… عام على الكتابة بالهواء الطلق، رجلاي في بحر الدم الأحمر ويداي في الفكر المتوسط…عام والمقامرة تزداد حرية.. والحرية تزداد مقامرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.