شعار قسم مدونات

رحلتي إلى دولة الجبل.. الانطلاق إلى أوجلان

blogs - جبل كردستان
طال الانتظار..
وعندما يطول، تصبح الساعات أطول، وكذلك الدقائق والثواني، خاصة في أجواء لأول مرة تعيشها، وأنت تتجه للّيل، ليل الجبل.. كلما تأخر الرد على طلبنا، كلما أصبح الانتظار أثقل علينا، وزاد يقيننا أكثر بأننا باقون هنا في الليل القادم..
 
إذن يأتي الليل ولا يأتي الرد..
قضينا أربع ساعات بين الاستماع للـ (هَفال) ويعني الرفيق وهو المصطلح الأكثر استخداما هناك، يُطلق على مسلحي حزب العمال الكردستاني، وبين نشر نظراتنا في أجواء الجبل والوادي وعين الماء المتدفق، والكوخ الذي لا يتوقف إليه الحركة دخولا وخروجا من قبل مسلحي الحزب، والمشي بين الحين والآخر، وأحيانا كان الفضول يدفع واحدا منا للمداخلة سواء بسؤال أو تعقيب..

بعد ذلك الانتظار جاءنا رد عثمان أوجلان عضو الهيئة القيادية في حزب العمال الكردستاني والذي كان يعتبر حينه الشخص الثاني في الحزب بعد شقيقه عبدالله أوجلان المعتقل في تركيا، وقد وافق على طلبنا اللقاء به، حدد زمانا ومكانا لا علم لنا بهما، عند الاستفسار ممن حولنا من الرفاق عن أين سيكون ومتى؟! هل هو بعيد أو قريب، اليوم أو غدا؟! لم يكن لأحد منهم صلاحية البوح لنا بهذا السر، فقط دليلنا الذي سيقودنا إليه، هو الذي يمسك بهذا الملف الحساس! رغم أن الأمر كان طبيعيا بالنسبة لنا، فنحن صحفيون ومتعودون على اللقاءات والتغطيات، لكن الملف يعتبر عندهم حساسا ومسؤولا، فاكتفى هو بتبليغنا أول معلومة منه وهو: الاستعداد للمبيت ليلا.. حيث سيبدأ الانطلاق إلى أوجلان..

مرت ساعة، ولم تنته بعد نصف الساعة التي حددوها لنا للطريق إلى أوجلان! تعب رفاقي، قال أحدهم إنه أصيب بالدوار، كي لا يسقط في الوادي في هذا الليل، اضطررنا لاستراحة، كانت فرصتي للتحدث إلى الدليل أين ومتی ولماذا جاء إلى هنا

ساعاتنا وساعاتهم
مع حلول الليل، تحركنا بثقة وحماس، خاصة بعد أن أبلغنا الدليل بأننا نحتاج إلى المشي نصف ساعة للوصول إلى هناك، نصف ساعة لا بأس، ليس بكثير، لم نفكر في أن الساعة والنصف ساعة بين فهمنا ونحن جدد في الجبل، يختلف كثيرا عن فهمهم وهم أصبحوا جزءا من الجبل، فما يقطعه أحدهم في نصف ساعة من الجبل يقطعه واحد منا في زمن أكثر منه بكثير.

يتحرك الدليل أمامنا نحن الأربعة وفي يده إنارة عاملة على البطارية ومن ورائنا مسلحان، وفي يد أحدهما إنارة أخرى، نتحرك في رتل على طرف الجبل..

دخلنا وادياً..
أرى من بعيد إنارات تضيء وسط مزارع تصلنا منها فقط عتمتها، فالمزارع في الجبال تصبح أكثر ظلمة في الليل، أظن أن تلك الإنارات تأتينا من المكان المقصود الوصول إليه، ففيه سيكون نصف ساعتنا قد انتهى، وإلا ماذا تفعل تلك الإنارات هناك، فليس هنا قرويون فالمنطقة محرمة، فلا بد أنه المكان المقصود..

صوت النهر في صمت الليل
أسمع لحن النهر الذي يقطع الوادي بعنفوانه..
لا نراه لكن صوته يؤكد لنا ذلك، يؤكد لنا بأنه قوي وعنيف، ويصطدم بالصخور، وشوشته ازدات كثيرا عما كنا نسمع بالنهار، ففي النهار كانت أجواء الجبل تأخذ بأنظارنا وتشغل مسامعنا، فلم نكن نسمع النهر كما نسمعه الآن، فالظلمة المحيطة بنا تجعلنا لا نرى إلا أمتارا حولنا، أمتارا من الظلمة المحيطة بنا إلا ما تنيره مصابيح مَن أمامنا ومَن خلفنا، ما أعطى قوة للسمع الذي بدأ أكثر تركيزا للأصوات وأكثر الأصوات وأقواها هو صوت النهر في صمت الليل..

كذلك نقيق الضفادع كان يأتينا من مناطق الرطوبة والبلل المحيطة بنا، وكلما كنا نقترب من أسفل الوادي كان النقيق يزداد، ووشوشة النهر تكاد تأخذ بأسماعنا وألبابنا..

طرفا الوادي يحيطان بنا من اليمين واليسار، جداران صخريان كبيران، وفوقنا سماء نراها بين الحين والحين، وقد زخرفت لوحتها المعتمة‌ نجوم تتلألأ.. إنارات منتشرة هنا وهناك، عندما سألنا عنها لِمن؟ رد الدليل بأنهم الرفاق منتشرون في كل مكان..

ليست القضية هي وحدها التي دفعت كل هؤلاء الذين لم أتوقع كثرتهم هذه، إلى هنا، فلكل واحد منهم مشكلته الخاصة، لكنه تخلص منها هنا، فهنا لا مشكلة غير كردستان
ليست القضية هي وحدها التي دفعت كل هؤلاء الذين لم أتوقع كثرتهم هذه، إلى هنا، فلكل واحد منهم مشكلته الخاصة، لكنه تخلص منها هنا، فهنا لا مشكلة غير كردستان

لسنا رجال الجبل
تجاوزنا الإنارة التي ظننته المكان المقصود، إذن خاب ظني فلم يكن ذلك المكان ما هو ما نريده، ولم تكن المسافة نصف ساعة كما قالوا لنا! لم يكذبوا علينا بل قدراتنا في المشي لا تصل إلى قدراتهم في المشي، وهو ما جعل الدليل يضحك علينا قائلا: "لستم رجال الجبل"

بعدما كنا نمشي على طرف الجبل، ودخلنا الوادي، وجدنا دليلنا يصعد باتجاه القمة، والطريق الذي نسير عليه لا يسع إلا لسير شخص واحد فقط، أي انزلاق أو خطأ في وضع خطوة القدم، سيكون الوادي السحيق هو المستقر، بين الحين والآخر تنزلق أقدامنا فجاذبية الوادي أقوى من قوة أقدامنا التي تضغط بشدة على الأرض، لذا يمسك أحدنا يد الآخر كي يسحبه وراءه، أصبحنا كسلسلة، كما يفعل أحياناً محترفو تسلق الجبال.

ليست بيدنا حيلة، كل ما نملكه هو تتبع سير الدليل، وصلنا النهر فإذا بنا بين حشد من الناس: رجال ونساء قد اجتمعوا على النهر، كلهم من العمال الكردستاني، كل واحد جاء لحاجة معينة.

لا مشكلة هنا غير كُردستان
مرت ساعة، ولم ینته بعد نصف الساعة التي حددوها لنا للطريق إلى أوجلان! تعب رفاقي، قال أحدهم إنه أصيب بالدوار، كي لا يسقط في الوادي في هذا الليل، اضطررنا لاستراحة في الطريق، كانت فرصتي للتحدث إلى الدليل أين ومتی ولماذا جاء إلى هنا:
– من مهاباد..
(مهاباد في كردستان إيران أعلن فيها قاضي محمد جمهورية كوردستان الشعبیة في أربعينيات القرن الماضي).
– الله.. من مدينة قاضي محمد؟
– نعم..
– لماذا جئت إلى هنا؟
– تريد الصراحة؟
– نعم..
– ماتت والدتي وأنا عمري ست سنوات، تزوج والدي من امرأة كانت تضربني وتعذبني فهربت منهم..
– منذ متى وأنت هنا؟
– عشر سنوات.
ليست القضية هي وحدها التي دفعت كل هؤلاء الذين لم أتوقع كثرتهم هذه، إلى هنا، فلكل واحد منهم مشكلته الخاصة، لكنه تخلص منها هنا، فهنا لا مشكلة غير كردستان.

نصف ساعة = ساعتين ونصف
بين كل مائة متر وأخرى تقابلنا نقطة سيطرة لمسلحي الحزب، يتكلم معهم الدليل فيفتحون لنا الطريق، وفي جانبي الوادي الذي نسير فيه كانت الأنوار تزداد باطراد، كانت الأنوار كهربائية، استغربنا للأمر عندما سألناهم أبلغونا بأنهم أنتجوا الطاقة الكهربائية من مياه النهر بعدما عملوا منه شلالاً يولّد لهم الكهرباء، فتزودوا هم بها وزودوا القرى المجاورة أيضاً.

مرت ساعتان، ولم تنته بعد نصف ساعتنا.. ما زلنا لا نعرف أين نحن من المكان الذي نتوجه إليه.. ظن أصحابي أن كل هذا السير مجرد عملية للتمويه علينا للمتطلبات الأمنية، فالليل دامس بظلامه، والوادي سحيق بعمقه، والتعب الذي أصابنا جعلنا لا نفكر في شيء إلا بالوصول إلى المكان الذي نريد لا من أجل أن نلتقي بأوجلان بل لنأخذ قسطاً من الراحة لأن التعب أهلكنا أو كاد.

وصلنا القمة، أوحت القمة لي بأن المكان قد اقترب وإلا فلماذا توجهنا إليها؟ فجأة رأيت أن الدليل أخذ طريق النزول إلى الوادي في الجانب الآخر من القمة.
أمرُنا لله، ليست بيدنا حيلة، كل ما نملكه هو تتبع سير الدليل، وصلنا النهر فإذا بنا بين حشد من الناس: رجال ونساء قد اجتمعوا على النهر، كلهم من العمال الكردستاني، كل واحد جاء لحاجة معينة، عبرنا جسراً متواضعاً من صنع أيديهم، يهتز مع كل خطوة نسير عليه، خشيت أن يوقعنا في النهر، فيأخذنا النهر إلى مثوانا الأخير، على كل حال أخذنا الجسر من الجانب الأيمن للنهر إلى أيسره.

تقدم رجل في اتجاهنا، صافحنا مُرحِّبا بنا، لم تساعدنا ظلمة الليل ومعها التعب في التفكير فيمن سيكون؟ بادر مسلح كان برفقة الرجل، إلى تقديمه لنا: عثمان أوجلان
تقدم رجل في اتجاهنا، صافحنا مُرحِّبا بنا، لم تساعدنا ظلمة الليل ومعها التعب في التفكير فيمن سيكون؟ بادر مسلح كان برفقة الرجل، إلى تقديمه لنا: عثمان أوجلان

شربنا ماءً زلالاً من عين على جانب النهر، كان يشرب منه بعض المسلحين في تلك المنطقة، غسلنا وجوهنا، بدأنا نصعد في الطرف الآخر من الوادي، وصلنا بناية تشبه قاعة اجتماعات، كانت فيها كراسي مصطفة، بعدها كانت بناية أخرى، جميعها في طرف الجبل تحت طبقات صخرية، ساعدت في أن تكون المنطقة غير مكشوفة، إذن لا بد أننا في المكان المقصود، مع ذلك يصيبني القلق بأن يفاجئني الدليل فيستمر في مشيه بعدما يتخذ مسارا جديدا.

تقدم رجل في اتجاهنا، استقبلنا، كان نظيف الملبس، حسن المظهر، صافحنا مُرحِّبا بنا، لم تساعدنا ظلمة الليل ومعها التعب في التفكير فيمن سيكون؟ بادر مسلح كان برفقة الرجل، إلى تقديمه لنا:
– (عثمان أوجلان) 

تركني أوجلان، وظل يحاور رئيس الفريق (يوسف الشريف) مراسل الجزيرة حينه، باللغة التركية دون أن أفهم شيئاً.. بعد برهة خرجت من غرفة أوجلان رأيت مسلحين جالسين يقومان بحماية الغرفة.. فجلست معهم

نشوة من الفرح هبطت علينا لا لوصولنا الهدف بل لمعرفتنا بأن مشي هذه الليلة في هذا الطريق الصعب قد انتهى بعد ساعتين ونصف، مع يقيننا بأن كل هذا الطريق الذي جئنا فيه هو نفسه الذي سنقطعه راجعين، بعد انتهاء المهمة.

مع أوجلان
رحب أوجلان بنا، موجها لي أسئلة.
– أنت كردي.
– نعم. 
– من كردستان الجنوبية؟
– نعم.
– من أية مدينة؟
– دهوك.
– إذن بارزاني.
– لا.
– طالباني؟
– لا.
– كيف لا.. إذن بعثي! 
(ضحك الجميع)
– صحفي كردي مستقل.
– ليس هناك مستقل في زماننا!

تركني، وظل يحاور رئيس الفريق (يوسف الشريف) مراسل الجزيرة حينه، باللغة التركية دون أن أفهم شيئاً.. بعد برهة خرجت من غرفة أوجلان رأيت مسلحين جالسين يقومان بحماية الغرفة.. جلست معهم..
– منذ متى وأنت هنا؟
– أكثر من عشر سنوات.
– من أين جاء هؤلاء كلهم؟
– من كل مكان؟
– كيف؟
– بيننا من كورد تركيا والعراق وسورية وإيران، وبيننا عرب وترك وقوقاز وروس وفرنسيون..
– وماذا يفعل هؤلاء معكم؟
– يناضلون.
– أنتم تناضلون من أجل القضية الكردية، ما شأن العرب والترك والروس والفرنسيين؟
– نحن نناضل من أجل الإنسانية جمعاء.. نحن فكرة إنسانية، لكل البشر نحررهم من الظلم.
– لكن الكورد يحتاجون إلى التحرير أولا، ما زالوا لم يتحرروا بعد.. أما البقية فلكل واحد منه دولته..
– نحن نحمل الفكرة التي تحرر.
– ليكن.. لكن لأنفسكم أولا.. ثم تحدثوا عن البشرية.
– ألا ترانا محررين هنا، نحن الآن أحرار لهذا نحن هنا.
– هل الحرية أن تعيش بين الناس، أم أن تعيش في الجبال؟
– سنبدأ من الجبال، وننطلق إلى الناس.

استسفرنا من أوجلان عن سبب نهوض المسلحين المبكر، فالجيش الآن في مرحلة وقف النار ولا مواجهات، فرد أن هؤلاء بعد النهوض يبدؤون بقراءة الكتب.. يقرؤون مرافعة عبدالله أوجلان عن نفسه
استسفرنا من أوجلان عن سبب نهوض المسلحين المبكر، فالجيش الآن في مرحلة وقف النار ولا مواجهات، فرد أن هؤلاء بعد النهوض يبدؤون بقراءة الكتب.. يقرؤون مرافعة عبدالله أوجلان عن نفسه

عدت إلى الغرفة، وجه عثمان أوجلان لنا أسئلة:
– ما معلوماتكم عن تفجير المرقد الشيعي في طوز خورماتو والفوضى الحاصلة في كركوك؟
– الوضع الآن هادئ.
– من برأيكم يقف وراء هذه الأحداث؟ 
لم نفصل في الموضوع.. لكنه بادر قائلا..
– أظن إيران..
استغربت.. إذ يتهم إيران دون تركيا التي يحاربها هو! فالعادة عندهم أن يتهمون تركيا، وخاصة أن الحدث وقع في منطقة فيها تركمان..
نمنا ليلة صعبة في الجبال، لولا التعب الذي سيطر علينا لما غلبنا النوم، فلم أعلم متى نمت إلا بعد أن فوجئت برحيل ظلام الليل وحلول الفجر على هذه الجبال، كان المسلحون يملؤون كل مكان في هذه الجبال، نهضوا، يستعدون ليوم جديد، استسفرنا من أوجلان عن سبب هذا النهوض المبكر، فأنتم الآن في مرحلة وقف النار فلا مواجهات، فرد أن هؤلاء بعد النهوض يبدؤون بقراءة الكتب..
– ماذا يقرؤون؟ 
– الآن مع كل واحد نسخة من كتاب مرافعة عبدالله أوجلان عن نفسه، كتاب كتبه في السجن في تركيا يرد على التهم التركية الموجهة له، الكتاب مؤلف من 7000 صفحة!

* الحلقة القادمة: انشقاق عثمان أوجلان من حزب العمال الكردستاني، بعد مقابلتنا معه بأيام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.