شعار قسم مدونات

الحج في زمن الماديّات

blogs الحج

ضوءٌ يُزَيّنُ سورَ المنزِلِ بِلَونٍ بهيج، سَعَفُ نخلٍ يعلو بابَ البيتِ بخَضارِهِ البَهِيّ، يافطةٌ تتقدّم ذلك كلّه مخطّطةٌ بـ "حجٌ مبرورٌ وسعيٌ مشكورٌ وتجارة لن تبور". مُفعَمٌ هذا المشهدِ بالفرحِ الذي يتسلّلُ إليّ، يبعثُ في قلبي السعادةَ كلّما مررت من جانبه دون أن أدري مَن أهلُ المنزلِ ومَن العائدُ مِن حجّه إليهم. مُبهِرٌ هو الحج إذ يُرسِلُ بهجةً تطالُ الروحَ هيبةً ورهبةً أمامِ ذكره. 

في الطريق لمكةَ أولَ مرةٍ كانَ يتملّكني خوفٍ أحاولُ إخفاءه رغم شوقي وحاجتي للوصول إليها إلّا أنّي كنتُ أرتعبُ من فكرةِ أن: ماذا لو وصلتُ مكةَ ولم أشعر بشيءٍ أبداً؟ ماذا لو أتيتُ الكعبةَ ورأيتها بناءً حجريّاً لا وصلَ فيه ولا شعور؟ ماذا لو طفتُ حولها ونالَني التعبُ جسداً، ولم أذقِ المعنى روحاً؟ كنت طوال الطريق أتمتم في باطنِ الروحِ دعاءً ومناجاةً لله ألّا يكلني لنفسي هناك طرفةَ عين أبداً؛ فإنّي أخافُ عليَّ مِن نفسي ألّا أدرِكَ مقامَ الخيرِ في تلكَ البقعة المباركة. وما إن بدأتُ الطواف حتى تراءى ليَ العمرُ بما فيه، كان الكونُ هو الذي يدورُ أمامي بكلِّ تفاصيله: مَن نحنُ وكيف أتينا وأين نمضي! كان ذلك كلّه يمرُّ مِن أمامي بطمأنينةٍ أتلمّسها كلّما نظرتُ للكعبةِ لأجدها تذكّرني بأن: "هو الله". 

في زمنٍ ماديّ تكادُ ألّا تحصلَ على شيءٍ فيه دونَ مقابلٍ يفوق ربما قيمته. في زمنٍ تغدو فيه المشاعرُ ترفاً، والعاطفةُ أداة، كيفَ لهذا الحجم من المشاعرِ المتمثّلة في شعائرِ الحجِّ أن تؤتِي مفعولها في قلبك؟ في زمنٍ مُتسارِعٍ بكلّ ما فيه؛ وجباته سريعه، كلماته مختصرة، معدل استماعنا ومشاهدتنا فيه قصير جداً، ما الذي يجعل أياماً كأيامِ الحج تجذبنا؟ 

في الحج جهادٌ مُتعب تبذل فيه طاقةً جسدية ومادية عظيمة، لكنّ هذا التعب مسبوقٌ بحُبٍ يتملّك عليك فؤادك وروحك، تماماً كما الحياة
في الحج جهادٌ مُتعب تبذل فيه طاقةً جسدية ومادية عظيمة، لكنّ هذا التعب مسبوقٌ بحُبٍ يتملّك عليك فؤادك وروحك، تماماً كما الحياة
 

يخدعنا هذا الزمن حتى عن أنفسنا، نصدّق واحدةً من أكبر كذباته بأنّ الإنسان البشريّ غدا مادياً حدّاً شابه فيه الرجلَ الآليّ الذي يخرج من منزله إلى عمله ويقضي وقته ما بين اجتماعٍ ومواصلاتٍ ومتاعب. نفعل ذلك حقاً وتتراكم علينا أحداث العمر متسارعةً فعلاً، لكننا نحمل بداخل هذا الجسد قلباً وروحاً يرهقهما الشعور أكثر من المادة، تماماً كما ينعشهما هذا الشعور أكثر من هذه المادة أيضاً. قلبكَ الذي يلهفُ شوقاً لأحدهم، أو يضيقُ حزناً من آخر، روحكَ التي تملُّ الرتابةَ، أو تُرهقُ لشدة التبدلات، عينكَ التي ترفضُ النوم أرقاً تفكّر في شأنٍ ما، وفمكَ الذي يسترسل بالكلامِ عتباً أو تفاعلاً أمامَ تصرفٍ ما، كلّ ذلكَ وغيره يؤكد لكَ أنّ ما بداخلك أكبر من كلِّ الماديات. 

ابتدأ الحج من عائلة وقفت فيها الأم حائرةً أمام فقدٍ للزوج، وبكاءٍ للطفلِ، وقلةٍ للمالِ، ونقصٍ للثمرات والماء، لكنّها كانت مؤمنةً بالله مطمئنة إلى أنّه لن يضيّعها، مدركةً أنّ مَن وهبَ لها الحياة والإيمان لن يكلها دونَ أن يشدّ عزيمتها ويشقَ طريقاً لها. وبقي هذا هو الحج، وهذه هي أيامه. أنتَ في الحجِّ تقصد الله، حتى وإن كنتَ بعيداً عن مكة ولم تدرك استطاعةَ السبيل إليها بعد، أنتَ في أيام الحج تقصد الله، تأتي إليه بكلِّ نقص يراودُ أيامك، تقف بين يديه – عز وجلّ – تنقصكَ العافية أو سلامة الصدر، تفتقدُ حبيباً أو رزقاً، تشكو قسوةَ قلبٍ أو ضيقَ حال، يؤرّقك مُصابٌ أتاك أو بلاء مسّك، لكن الحج يريدُ منكَ أن تؤمن بالله وتطمئنّ إلى جنابه حتى وإن حملت كل هذه المتاعب. 

ما بين الجهاد الذي تبذل فيه أيامك وطاقتك ومعنوياتك حتى تكادُ أن تصبح صفراً خالياً، وما بين حبٍّ يدفعك للبقاء، ويلهمكَ العطاء، ويبارك لكَ البذل كله. هذا هو الحج

"هو الله"، كانَ يلوحُ ليَ المعنى كلّما نظرتُ للكعبة المشرّفة، تماما كما نحتاجُ لهذا المعنى أن يرافقنا العمر كلّه. أنتَ على هذه الأرض بإرادةٍ من الله، اخترتَ طريقاً للصلاحِ والإصلاح قصداً لله، تصبرُ على البلاء وتشكر على النعماء لأنهم من الله، تسألُ مطالبكَ من الله، وتعوذُ من مخاوفكَ بالله. يريدُكَ الحج أن تكونَ حديثَ عهدٍ بالله كمولودٍ جديد تطمئنه فطرته. لذا فإن لم تكن في مكَة هذه الأيام بوركَ لكَ في كلِّ عملٍ صالحٍ خارجها، والعمل الصالح مفتوح مُتاح لتتمتّعَ فيه ما استطعتَ إلى ذلك سبيلاً؛ كلّ عملٍ في هذه الأيام يقرّبك لله ويجدد عهدك معه، كلّ صلاةٍ، كل صيامٍ، كلّ ودٍ، كلّ جبر، كلّ عطاء، كلّ اتقان، كلّ ما تنويه لله، فإياكَ أن تبخلَ فيها على نفسك. 

في الحج جهادٌ مُتعب تبذل فيه طاقةً جسدية ومادية عظيمة، لكنّ هذا التعب مسبوقٌ بحُبٍ يتملّك عليك فؤادك وروحك، تماماً كما الحياة؛ فأنت في الحياة تتقلّب بين الحرفين، ما بين الحاء والجيم، ما بين الجهاد الذي تبذل فيه أيامك وطاقتك ومعنوياتك حتى تكادُ أن تصبح صفراً خالياً، وما بين حبٍّ يدفعك للبقاء، ويلهمكَ العطاء، ويبارك لكَ البذل كله. هذا هو الحج وهذا هو القصد، وهذا هو الوقوف على باب الله، وهذا هو مفهوم العمر لمَن آمن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.