شعار قسم مدونات

تلك حدود الله

blogs السبسي

يعيدنا ابتهاج رموز العلمانية المتطرفة في تونس والعالم العربي بتصريحات الرئيس التونسي السبسي المطالِبة بالمساواة بين الرجل والمرأة في الميراث، والسماح لها بالزواج من غير المسلم.. يُعيدنا قليلاً إلى الوراء، وتحديداً عشية الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي، حيث كانت هناك مطالبات واسعة داخل تونس وخارجها بأن تصل نار الثورة إلى كل مخلفات العهود السابقة من دساتير وقوانين، وحينها وقف رموز العلمانية إياها رجالاً ونساءً بكل جرأة وأبوا أن يتم المساس بقانون الأحوال الشخصية الذي أُقر في عهد بورقيبة، رغم أنه أُقر بالقوة والإكراه، ولم يكن معبّراً عن نبض الشارع، وفيه ما فيه من تنكر لهوية المجتمع وثقافته المسلمة، مع مخالفات واضحة لنصوص صريحة في الشريعة، وخصوصاً حظره تعدد الزوجات في تونس.

لستُ هنا في معرض تناول مقاصد الشريعة من أحكام الميراث، ومنع زواج المرأة من غير المسلم، أو إباحة تعدد الزوجات، فتلك قضية لها أهلها، وقد توسّع الفقهاء في تفصيلها وتبيانها على مرّ العصور، إنما يكفيني كمسلمة أن أقرأ عقب تفصيل القرآن لأحد أحكام الميراث قوله تعالى: "تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ" (آيات النساء 12 – 14).

فما معنى أن تكون مسلماً إذا كنت ستنكر نصوصاً شرعيةً قطعية الدلالة وتتجاهل تحذير الله من العبث بها أو العدوان عليها؟ وما معنى أن تكون القوانين الأرضية الخاصة بأي منظومة سياسية أو أمنية أو إدارية محلّ تقديس وتطبيق، بينما نجد العبث مستساغاً والسكوت عنه متفهماً ومحاولات التأويل المتهافتة حاضرة حين يتعلق الأمر فقط بالقوانين الإلهية القاطعة؟

لا ندري ما الذي أراده نظام السبسي من طرحه المنحرف
لا ندري ما الذي أراده نظام السبسي من طرحه المنحرف"المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث"، فقد كثرت التأويلات والتحليلات حول الموضوع.

في الحقيقة، لم تبدأ المأساة المعاصرة في الجرأة على حدود الله من محاولات أدوات الاستعمار والعلمانية المتطرفة العدوان على الدين، بل منذ رأينا من داخل الصف الإسلامي من يمارس إرباكاً خطيراً باسم الاجتهاد، ولا يبالي في اتباع الهوى والتنكر لنصوص دينية واضحة أملاً في التقرب إلى غلاة العلمانيين أو طمعاً في مصلحة متوهمة. لقد صارت الميوعة منهجاً لكثير ممن يقدمون أنفسهم تنويريين وحداثيين إسلاميين، ويبشرون بأنهم ظفروا بفهم جديد للإسلام لم يدركه الأولون والآخرون من صحابة وخلفاء راشدين وفقهاء وعلماء!

تحت هذه اللافتة جرى تزوير كثير من المفاهيم الدينية حتى اختلّت الضوابط ولم يعد هناك ميزان يفرق بالقسط بين الحرام والحلال، وبين القطعي والظني، وبين ما يجب أن يُقبل كما قرّره الله تعالى في كتابه، وما يحتمل الاجتهاد أو فيه مجال للتأويل. ومع وجود آيات قرآنية تحذر من هذا المآل وتنعته بالضلال، وتؤكد على جعل التسليم بأحكام الله والانقياد الظاهر والباطن لها من متطلبات الإيمان، مثل: "فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"، "وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا".

ما كان الانحدار الفكري والقيمي ليصل إلى هذا المستوى لو أن علماء المسلمين والقادة الإسلاميين قد انتصروا لثوابت الدين.
ما كان الانحدار الفكري والقيمي ليصل إلى هذا المستوى لو أن علماء المسلمين والقادة الإسلاميين قد انتصروا لثوابت الدين.

إلا أننا نجد ظاهرة تمييع الثوابت الدينية في اتساع، ورموزها في ازدياد، وليس المقصود هنا فقط الرموز الذين توظفهم بعض الأنظمة لأغراض التشكيك في الدين وهدم قداسته، بل بعض المحسوبين على الحركات الإسلامية من قادة أو فقهاء، إذ لا نلمس فقط أن هؤلاء تعوزهم الصرامة عند التصدي للأفكار المنحرفة، بل إن بعضهم يتورط في تعليق كل انتهاك لثوابت الدين على شماعة الاجتهاد أو الفهم الجديد المختلف للنص، وهنا تكمن الطامة، فمن لا ينتصر لحرمات الله عند انتهاكها بحجة رغبته في اتقاء غضب السلطة السياسية في بلده وعدم استفزاز رموز العلمانية المتطرفة، ليس لنا أن نتوقع منه أن يُحسن إدارة الموقف عند وصوله للسلطة، أو أن يحارب الفساد، ويجفف منابعه، أو أن يكون مكترثاً أصلاً بإزاحة أدوات الاستعمار ومحاربي الدين عن المشهد السياسي!

لا ندري على وجه التحديد ما الذي أراده نظام السبسي من طرحه المنحرف هذا، فقد كثرت التأويلات والتحليلات حول الموضوع، لكن الاعتقاد بأنه يرمي لإشغال التونسيين عن احتياجاتهم الأساسية التي أخفق في تلبيتها يجب ألا يصرف النظر عن خطورة الطرح وما قد يشي به حول مستقبل تونس، فها هنا رئيس لا يُعدّ فقط من مخلفات النظام السابق وأحد المقربين من الغرب ومن أنظمة الثورة المضادة، بل إحدى أدواتها، لكنه أيضاً يسير على خطوات من سبقوه في التخبط والفساد والاستبداد والعجز عن النهوض ببلده، ويضيف إلى ذلك محاولاته شرعنة العدوان على ثوابت الدين وأحكامه.

وفي تونس، رأينا من يهاجم المحتجين في العالم العربي والإسلامي على تصريحات السبسي، من باب أن تلك مسألة تونسية داخلية لا يجوز (للأجانب) التدخل فيها! وهذا تماماً أحد تجليات جناية تقديس مفاهيم غير مقدسة في ذاتها (مثل الوطنية) واتخاذها ديناً جديدا، حتى صار الانتصار للدين الذي أنزله الله للعالمين يعدّ تدخلاً في شؤون القُطر الذي ينتهك شرائعه، وما كان الانحدار الفكري والقيمي ليصل إلى هذا المستوى لو أن علماء المسلمين والقادة الإسلاميين قد انتصروا لثوابت الدين وحدوده كما ينبغي، وكما قرر الله في كتابه، فـ (القرآن دستورنا) لا ينبغي أن يكون فقط شعاراً حماسيا، والله تعالى لا يرضيه أن يقول المسلم ما لا يفعل، أو أن يرفع شعاراً ثم يسلك سبيلاً يناقضه، أو أن يظلّ اعتزازه بدينه وتسليمه بأحكامه حبيس قلبه وحسب، بل لا بد للمسلم أن يصدع بما يؤمر، دون خجل أو وجل، (فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.