شعار قسم مدونات

"غوانتنامو قصتي".. الحوار مع المحقق

مدونات - غوانتناامو
 
خلال وجودي في غوانتانامو وتعاملي مع الأمريكيين توصلت إلى بعض الدروس والتجارب، ومنها أن تخاطب الشخص الذي تريد مخاطبته وفقاً لعقليته والحياة التي يعيشها، فالأمريكيون ماديون وحياتهم مادية، فإذا قلت لهم: هذا لا يجوز في الشرع وفي الدين، لا يؤثر ذلك فيهم لأنهم بعيدون كل البعد عن الدين. ذلك ما عرفناه من معاشرتنا ومعايشتنا لهم، فالدين لا يعني لهم شيئاً، ولا يغرنّك كبر الصليب الذي يتدلى من صدر الأمريكي، فهو بعيد كل البعد عن عقيدته الدينية. ذلك حال جل الجنود والمحققين الذين قابلناهم، فهم عموماً أناس ماديون في المقام الأول، وعليه فقد قرّرتُ التكلُّم مع محققي بهذا المنطق، لأنني إذا تكلمت معه بمنطق الدين فلن يفهمني.

قلت له: "حقيقة أنا ذهبت إلى أفغانستان لتغطية الوضع هناك وعرضت نفسي لويلات الحرب، ولكن أنت الآن تعرضني لعمل خطير جداً. صحيح أنني سأكسب منه مالاً ولكن سأخسر روحي وحياتي، ولدي روح واحدة إذا خسرتها فلا فائدة من كسب المال والتمتع بالامتيازات التي ذكرت، فأنا حقيقة أخاف على نفسي وأخاف على أسرتي أيضاً، ولكن أنتم من ماذا تخافون"؟ فقال: "لا تخف، نحن أمريكا وسنحميك"، قلت له: "عذراً، إذا كانت أمريكا الدولة العظمى كما تقول غير قادرة على حماية نفسها حتى تستعين بشخص ضعيف مثلي، وتزج به في هذه القضية من أجل حمايتها، فكيف ستحميني؟

كنت أسأل حماد عن أخبار السودان والأوضاع هناك بعد اعتقالي، والتحركات التي تمت من قبل السودانيين. وبفضل الله أعطاني صورة طيبة وتعرفت من خلاله إلى أخبار مفيدة.

إن لم تكونوا قادرين على حماية أنفسكم فكيف ستحمونني؟ فلو كانت أمريكا قادرة على حماية نفسها، وهي عظمى كما تقول، ما طلبت خدماتي أنا المسكين الضعيف الذي لا يستطيع أن يحرك ساكناً". سكت محققي وقال لي: "صحيح، قد نكون الآن لسنا قادرين على كل شيء، ولكن هذا لا يعني أننا عاجزون أيضاً. نحن في أمريكا ما زلنا نمتلك أشياء كثيرة، ولكننا في حرب جبانة ساحتها مفتوحة وليس لها حدود وليس لها زمن، فنحن نتعامل مع أشباح ولا نتعامل مع جيوش. أمريكا قوية وتملك السلاح وتستطيع أن تحارب الجميع، ولكن في حرب مكشوفة لا خفيّة كما هو أسلوب الحرب الآن، فلا بد أن نستعين بأشخاص حتى يعينونا على هذه الحرب، ومن هذا المنطلق نحن الآن نعرض عليك أن تكون شريكاً لنا في هذا الأمر".

عندها كررت له أنني غير مطمئنّ، بل خائف على نفسي وعلى أسرتي، فقال: "نحن سنحاول أن نحميك بكل ما أوتينا من قوة عندما تصبح مواطناً أمريكياً". قلت له: "أنا غير مقتنع بهذا الأمر، وأنا حريص كل الحرص على أن أخرج من هذا المكان وأعيش مع أسرتي حياة هادئة ليس فيها أي تهديدات أو عدم استقرار"، فقال لي: "إن موافقتك على العمل معنا ستكون السبب في إخراجك من هذا المكان، والحقيقة أنك لم تفعل شيئاً ضد الولايات المتحدة الأمريكية يستوجب تقديمك للمحاكمة، ولا يوجد أيضاً تبرير لتوقيفك في هذا المكان". وأضاف: "لكن المؤسف أنك موجود في هذا المكان، ولا يوجد أي قانون يسمح بخروج أي شخص منه ولو كان في حالة مثل حالتك، ولكن نستطيع إذا وضعت يدك في أيدينا أن نضغط على المسؤولين السياسيين ونجبرهم على أن يتخذوا قراراً سياسياً يخرجك من هنا ويعيدك إلى أسرتك في القريب العاجل".

قلت له: "جيد، دعني أفكر في الأمر"، فأحضر لي مجموعة جديدة من المجلات، وقال: "إن كنت تريد أي شيء من المعسكر، فنحن نقضيه لك، تريد أن ننقلك إلى أي مكان، تريد، تريد، تريد؟".. قلت له: "لا تنقلني فوضعي جيد، فقط أريد أن تعطيني وقتاً لأقرأ هذه المجلات، ولا يأخذونني مباشرة"، قال: "أمنحك ساعة لتجلس في هذا المكان وتقرأ الجرائد والمجلات، وسآتي لك بمجلات وجرائد أخرى الأسبوع المقبل عندما نلتقي، ولكن يجب عليك أن تفكر جيداً في هذا الموضوع". عُدت إلى الزنزانة وجلست مع نفسي أفكر في هذا الأمر.

undefined

في عنبر تشارلي وجدت أخوين سودانيين هما: حماد، ومحمد رشيد. وبالحديث معهما، علمت أنهما اعتُقلا بعدي بثمانية أشهر. أما حماد فكان يعمل محاسباً في مؤسسة خيرية كويتية، ولم يمض عليه في باكستان أكثر من ستة أشهر، وكان قبل ذلك يعمل في بنك السودان بالخرطوم في قسم الحسابات. كان السودانيان موظفين في منظمات خيرية كويتية، واعتُقل معهما سوداني آخر، هو أبو أحمد الذي تعرفت إليه فيما بعد. وقد اعتقل مع هؤلاء السودانيين مهند السوري وأبو حذيفة الأردني وآخرون.

استشرت أخي وجاري حماد السوداني، فأشار علي بألا أكون مرناً معهم وأن أكون صريحاً وواضحاً في هذا الأمر، وقال إن محاولة التلاعب معهم قد تأتي بنتيجة لا تحمد عقباها.

عندما انتقلت إلى تشارلي وجاورت السودانيين خفَّ عني كثيرٌ من الضغوط النفسية، وبدأت أتحدث معهم كثيراً وأظن أنهم ربما اشتكوا فيما بينهم من كثرة كلامي ورغبتي الزائدة في الحديث. كنت أُسوِّغ لهم ذلك بالأشهر الأربعة التي قضيتها معزولاً بين الأفغان منذ مقدمي من قندهار، وبأنني لم أجد من أتحدث معه ولا من يسليني غير الأخ الليبي الذي لم يكن يستطيع التحدث بسبب ما يعانيه من مرض. كنت أسأل حماد عن أخبار السودان والأوضاع هناك بعد اعتقالي، والتحركات التي تمت من قبل السودانيين. وبفضل الله أعطاني صورة طيبة وتعرفت من خلاله إلى أخبار مفيدة. في تلك الفترة أيضاً التقيت بستيفن رودريجنس، المحقق الموظف في الاستخبارات الأمريكية.

عندما عدت إلى الزنزانة سألني الإخوة عن التحقيق فقلت لهم: الأمر خير، ولم أشأ أن أحدثهم بعفوية لأنني أدرك أن الأصوات مراقبة، لكنني حاولت إيصال رسالة عما جرى لجاري السوداني حماد الذي كان على الجهة اليسرى من زنزانتي، يأتي بعده السوداني محمد الرشيد. كان من الصعب أن أتكلم معه في الموضوع بكل وضوح، لكنني نقلت له صورة عما جرى أثناء دردشة عادية. فحدثته عما دار في التحقيق ونقلت له وجهة نظري أولاً لأؤكد له أنني أرفض العمل معهم جملة وتفصيلاً، ولا يوجد لدي أي احتمال للعمل معهم. ولكن في أسلوب الرد تراودني نفسي أن أبدي لهم مرونة تشعرهم بشيء من الثقة، حتى أنال حريتي وأخرج من السجن، غير أنني كنت أكثر ميلاً لأن أصارحهم برفضي التام لعروض العمل معهم.

استشرت أخي وجاري حماد السوداني، فأشار علي بألا أكون مرناً معهم وأن أكون صريحاً وواضحاً في هذا الأمر، وقال إن محاولة التلاعب معهم قد تأتي بنتيجة لا تحمد عقباها. بعد استشارة حماد واستخباراتي المتكررة، قررت أن أكون واضحاً معهم، وبعد أسبوع جاؤوا وأخذوني إلى الغرفة نفسها للتحقيق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.