شعار قسم مدونات

ضمور الحنين.. أو اعترافات متأخّرة جدًّا

مدونات - طفل يحمل علم فلسطين
حنين أبناء الثمانينيات لسنوات التسعينيات التي تفتّح وعيهم فيها يبدو عميقًا جدًّا، حزينًا جدًّا، تسري على جسده رعشة من سعادة، تمنح ألمه شيئًا من بهجة، ليس الحنين إلا ذلك الشعور الخليط من البهجة والحزن العميق، أو على الأقل هكذا يظهر لك الأمر إن قرأت التعليقات على أي أغنية في "اليوتيوب" تأتي من تلك الحقبة.. اقرأ تعليقاتهم مثلاً على أغاني حميد الشاعري والجيل الذي ظهر معه حينها.

قد يكون هذا حال الحنين مطلقًا، ولكني أتحدث عن جيل الثمانينيات الذي تفتّح وعيه في التسعينيات لأنه جيلي. أؤرخ لبداية تفتح وعيي بحوار دار في شهر كانون ثاني/ ديسمبر من العام 1987 بيني وبين زميلي في الصفّ المدرسي وعمري حينها سبع سنوات، وكنّا من قريتنا نلحظ دخان الإطارات المشتعلة من قلب رام الله، كنّا نقول إن هذه الأحداث لن تكون موسمية الآن، وقد قرروا أن تستمر، لم نكن ندري بالضبط من هم الذين قرروا، غير أننا هكذا تحدثنا نحن الطفلين عن بداية الانتفاضة.

حرفيًّا يمكنني القول إنني لا أكاد أذكر شيئًا قبل هذا الحوار، وأيًا كانت الحوادث التي احتوتها سنواتي بعد تلك الحادثة، فإن ظروفنا نحن الطفلين لم تتطابق، وقد وجدت نفسي في قلب المسجد، غير أن رعشة السعادة التي تغلف حزني العميق لا تأتيني إلا وأنا أذكر جلسة القرآن بعد صلاة الفجر في رمضان في المسجد، وفيديوهات مهرجانات الانتفاضة وانطلاقة حماس في الكويت وعَمّان. كنت بالكاد حينها قد أكملت العاشرة.

عليّ ألا أنسى بثّ مئذنة مسجد قريتنا -الذي كان جدّي مؤذنه- لتلاوة علي جابر قبل أذان صلاة العصر، وتلاوة عبد الباسط عبد الصمد قبل أذان صلاة الفجر. أو بالأحرى لا يمكنني النسيان، ولست أدري أيهما أوضح أثرًا فيّ حين سماعهما اليوم قبل الأذان في المسجد؛ هل هي رعشة السعادة، أم الحزن العميق.

اعتقلتُ لدى الاحتلال اعتقالاً عابرًا؛ حمل أحد أخوالي على اقتيادي للعمل معه في ورش البناء في العطلة الصيفية لأجل حمايتي مما يمكن أن يجرّني للاعتقال.
اعتقلتُ لدى الاحتلال اعتقالاً عابرًا؛ حمل أحد أخوالي على اقتيادي للعمل معه في ورش البناء في العطلة الصيفية لأجل حمايتي مما يمكن أن يجرّني للاعتقال.

أذكر أن جلسات القرآن تلك حملتني على شراء مختصر تفسير ابن كثير، وصفوة التفسير، كليهما لمحمد علي الصابوني. ويبدو أنني أجبت مبكرًا بعض إجابة على سؤال كنت أنوي سؤاله. لأي شيء يمكن أن ينبعث حنين من كانت هذه نشأته وطفولته؟!

قبل أكثر من عشر سنوات كنت مطاردًا للاحتلال لقليل من الأشهر.. ذات مرّة منها؛ كنتُ وحيدًا في غرفة فيها تلفزيون، وجدت قناة "سبيس تون" تعرض مسلسل الكرتون "عدنان ولينا" متصلاً بلا انقطاع، فقطعت شغلي، وأكملت الحلقات كلها، وربما فعلت ذلك أيضًا مع مسلسل كرتون "السندباد"، بعد ذلك اشتريت سيديهات تلك المسلسلات وشبيهاتها لأرى منها ما يمكنني رؤيته في خلواتي.. بعد اعتقالي كانت تركتي تلك مفاجأة للأصدقاء من خلفي!

لم أكن بريئًا تمامًا، ولم يكن الخروج من حقبة الانتفاضة سهلاً عليّ. في العام 1995 وكان ذلك العام الأخير قبل دخول السلطة الفلسطينية رام الله، اعتقلتُ لدى الاحتلال اعتقالاً عابرًا؛ حمل أحد أخوالي على اقتيادي للعمل معه في ورش البناء في العطلة الصيفية لأجل حمايتي مما يمكن أن يجرّني للاعتقال. يمكنك أن تتخيل أحاديث العمال التي تطرق سمع المراهق، ويمكنك أن تتذكر أغاني التسعينيات التي كنّا نسمعها في سيارة "المعلم" وهي تنقلنا للورشة..

لقد وجدّتُ صوت نجوى كرم جميلاً، ولعلها كانت أغنية "لا تبكي يا ورود الدار"، إلا أن علاقتي بها اقتصرت على سماعي للأغنية في السيارة، والعمال يمازحوني، كعادة الناس التي لا تنقضي أسألتها تلك، "الأغاني حرام يا شيخ ساري؟!".. لم أكن أجامل نجوى كرم في إجابتي المحفوظة، ولكني لم أكن أنكر أن صوتها في تلك الأغنية جميل؛ يناسب الحديث عن الحنين اليوم.. وينبغي التذكير هنا أنني كنت في الخامسة عشرة.. وأظنّ وقتها أيضًا كنت أسمع في السيارة ذاتها أغنية "وني مارق مريت" لعاصي الحلاني، بينما كان أحد العمال معنا مغرمًا بأغنية محمد محيي "أعاتبك على إيه".

لم أشتر في حياتي كلها، سوى "أشرطة" القرآن والأناشيد، أناشيد حماس والانتفاضة.. ولكن عليّ الاعتراف أن مراهقًا في سنّي من قريتنا جاء من الخليج وكان يغنّي أغنية عبد المجيد عبد الله "الله ما أكبر غلاك"، وقد لامست شيئًا أخذ يتفتح في النفس، حملني على اقتراف شراء ذلك الشريط، حتى قالت لي إحدى خالاتي يومها "سبحان مغيّر الأحوال".. لم يطل الحال الطارئ، وعدتُ سيرتي الأولى سريعًا.

سلسلة ما أحنّ إليه قد انقطعت عند العام 2000، أو بالكثير حتى العام 2001؛ إلى حين اعتقالي في ذلك العام، عام تصاعد الانتفاضة الثانية.
سلسلة ما أحنّ إليه قد انقطعت عند العام 2000، أو بالكثير حتى العام 2001؛ إلى حين اعتقالي في ذلك العام، عام تصاعد الانتفاضة الثانية.

أول ما تعرفت إلى الحنين، كان ذلك في العام 1998 في السجن، حينما طلبْتُ من والدتي أن تشتري لي كل مجلات "سمير" و"ميكي" وروايات "مجموعة الشياطن الـ 13". صحيح أن القراءة أكثر تعلقًا بالوعي مما هو عليه الحال بالغناء الذي هو أكثر تعلقًا بالمشاعر، فيبدو الحنين إلى قراءات الطفولة سطحيًّا وأقل عمقًا، ولكنني ما زلت كلما دخلت المكتبة ذاتها التي كنت أشتري منها مجلاتي وأنا طفل؛ أجول ببصري على ما فيها من مجلات الأطفال.

خرجت من السجن في العام 1998، بوعيي ذاته الذي دخلت فيه.. حاولت استئناف حياتي على النحو الذي كان قبل الاعتقال. كان ثمة أشياء كثيرة تغيرت، اعتقالات واسعة من السلطة والاحتلال غيّرت الظروف والناس، وكان حنيني إلى مسجد "العين" في مدينة البيرة قويًّا، غير أنه كان عليّ التصالح مع حقائق الزمن سريعًا.. طوت تلك السنة على أول حنين يدهمني، وأول محاولة لتجاوزه.

يمكنني القول إن سلسلة ما أحنّ إليه قد انقطعت عند العام 2000، أو بالكثير حتى العام 2001؛ إلى حين اعتقالي في ذلك العام، عام تصاعد الانتفاضة الثانية، ثمة أسباب أخرى سوى أن عقد التسعينيات كان قد انقضى؛ أوقفت حنيني عند ذلك العام، حتى صار وعيي بالزمن مشوّها. يبدو أن عليّ أن أتأمل جيدًا في السجن إذ يقطع مشاعر تأخذ بالتبلور، حتى يصير الحنين مجبولاً بالحسرة.

بعد خروجي من سجن السلطة في العام 2012؛ كنتُ أبحث في "اليوتيوب" عمّا كنّا نشاهده في التلفزيون الأردني في النصف الأول من عقد التسعينيات، القناة الوحيدة التي كنّا نلتقطها إلى جانب القنوات "الإسرائيلية".. كان الحنين قد أخذ بالضمور، حتى بدا لي وكأنه قد مات. ظلّ شيء واحد يقاوم الضمور، وهو ذكرياتي في المسجد من العام 1989 فصاعدًا، وأناشيد مهرجانات الانتفاضة وحماس الأولى، إلا أن حقائق الزمن دائمًا أقوى، وزيادة المعرفة تتغول على رعشة السعادة، وتحقن الحزن بالحسرة، لكن ذلك هو شأن أي مرحلة انتقالية، يكون ألمها قاسيًا، ولكنها ضرورية..

ليس ما سبق تفسير من أي نوع للحنين وضموره، ولا هي رغبة في تسجيل الذكريات، وإن كان فيه شيء من الحنين إلى الحنين.. ولكنها نظرة في هذه الحياة، التي تستحق أكثر من النظر والتأمل والعجب والحسرة على هذا الإنسان المسكين. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.