شعار قسم مدونات

حصار خمس نجوم

مدونات - قطر
بعيداً عن السياسة، ينقسم من هم خارج قطر إلى قسمين في نظرتهم إلى أوضاعنا كأناسٍ نشبههم. هناك من يتعاطف معنا، أهل قطر من مواطنيها ومقيميها، بسبب الحصار المفروض عليها، خصوصاً رمزية فرضه خلال شهر رمضان. وهناك من يأخذ صفّ دول الحصار، ويستفزّه أساساً أن نستخدم مصطلح الحصار. فبالنسبة له لا حصار، بل مجرّد قطع للعلاقات الدبلوماسية. بالنسبة له، إغلاق المجالات الجوية والبرية والبحرية أمر سيادي لا يتعلّق بقطر، بل بأمن الدول المحاصرة.

الدول المقاطعة، سيصحّح لي، وإن كان لا يملك إجابة عن سؤال جغرافي بسيط: لو كانت هذه الدول تتحكّم بكامل منافذ قطر، فأي منفذ كانت ستتركه مفتوحاً لنا كي تحافظ على صفة المقاطعة وليس الحصار؟

سؤالٌ من حزمة أسئلة ما زالت تنتظر إجابات رغم اقتراب الحصار من شهره الثالث.

المهم. بعيداً عن السياسة، من يستفزّهم شكوى أهل قطر من الحصار تجدّهم يرفعون أصواتهم، في العالم الافتراضي، كي يسكتونا ويتّهمونا بالمبالغة والمظلومية، فعن أي حصار نتحدّث والبضائع والأبقار تصل على متن طائرات.

من لا يأبه سوى للصراخ تراه يرميك بكلّ الاتهامات الممكنة. إن لم تكن قطرياً، فأنت مرتزقة. إن كنت أنثى، فأنت عاهرة. إن كنت قطرياً، فأنت خائن!

حصار خمس نجوم يقولون. فالقدرة المالية لقطر سمحت للدولة بإيجاد بدائل بسرعة للبضائع.

نعم، نحن لا نموت من الجوع. لا بل تحسّنت جودة بعض المنتجات الطازجة بفضل الحصار. بعض البضائع انقطعت، لكن تمّ استيراد بدائل. أحياناً ندفع ثمن الحصار بارتفاع أسعار بعض المنتجات، لكن بتنا أيضاً نجد منتجات أخرى بأسعار أقلّ.

في المجمل، حياتنا اليومية لم تتأثّر بشكل كبير.

لعلّ حياة العوائل المتناثرة عبر منطقة الخليج هي الأكثر تأثراً. فمن كان يذهب ليزور أهله مع كل نهاية أسبوع وجد نفسه الآن مضطراً للتخطيط لسفرة لكلّ أفراد العائلة للقاء في بلد ثالث. وهو ما ليس متاحاً مادياً للجميع، ولا زمانيا.

الطلاب الجامعيون الذين يدرسون في جامعات الدول المعنية، هم أيضاً وجدوا أنفسهم في مأزق ترتيبات جديدة.

الشركات التي اتخذت من أحد الدول مقراً لكلّ عملياتها في المنطقة هي أيضاً تأثرت. فمن كان يسافر يومياً إلى دول الجوار، او من دول الجوار، للعمل، كان يقضي ساعة إلى ساعتين للسفر بالطائرة. أما الآن فعملية الترانزيت عبر دولة ثالثة زاد ساعات السفر إلى 5 ساعات، ما يقضي على إمكانية الإبقاء على نفس وتيرة العمليات.

لكن ننظر إلى حال اليمن، وسوريا، والكثير والكثير من مناطق العالم، ونخجل من الشكوى. عندما يغرق العالم حولك في الظلم، تجد نفسك تلجأ للنسبية، وتحمد ربّك فما وقع عليك لا يعادل ذرّة مما يعانيه غيرك. فنحن، كما يقولون، نعيش حصاراً خمس نجوم. وعدا عن الأكل والشرب، لم تُحجب عنّا أخبار العالم، لم تُصادر آراؤنا، ولم تُجرّم مشاعرنا.

الكراهية مرهقة، فهي تغرقك في حزنٍ عميق. حزنٌ على قلوبٍ تُثقل بسوداويةٍ مجانية. حزنٌ على عقول تُغلق نفسها بنفسها وتقدّم نفسها هدية مجانية لبروباغندا مغرضة.

أغلب الأذى أساساً وقع بفعل تجريم بعض الدول للتعاطف مع قطر، وتكميمهم لبعض أصوات العقل والدعوات للألفة والمحبة. فمع مصادرة أي رأي يخالفهم، ومع إطلاق يد الشتائم، والتهجّمات، كلّ ما بقي على وسائل التواصل الاجتماعي هو سيل من الأحقاد والكراهية. ونظراً لتفوّقهم العددي، يعلو صراخهم على أي صوت عقل. حتّى عندما تحاول تذكيرهم بأخوة الدم واللغة، يهاجمونك.

من لا يريد أن تنجرّ الشعوب للتناحر، ولو كان كلاميا، تراه صامتاً خوفاً من قوانين تمنعه حتّى من الدعوة للهدوء. ومن لا يأبه سوى للصراخ تراه يرميك بكلّ الاتهامات الممكنة. إن لم تكن قطرياً، فأنت مرتزقة. إن كنت أنثى، فأنت عاهرة. إن كنت قطرياً، فأنت خائن! نعم وصلت بهم الهستيريا حدّ تخوين القطري إذا عبّر عن رأي يدافع فيه عن وطنه!

ينتهي النهار وصراخهم يضجّ في أذنك مهما حاولت أن تصمّ أذنيك. تجد نفسك متعباً.

الكراهية مرهقة، فهي تغرقك في حزنٍ عميق.

حزنٌ على قلوبٍ تُثقل بسوداويةٍ مجانية. حزنٌ على عقول تُغلق نفسها بنفسها وتقدّم نفسها هدية مجانية لبروباغندا مغرضة.

حزنٌ على أمّةٍ تتساءل ما كانت ستكون إنجازاتها لو لم تنشغل في الصراخ على بعضها البعض. حزنٌ على مستقبلٍ لا يمكن إلا أن يحمل ولو جزءاً من بعض السواد الذي يتمّ نشره.

فالقرارات السياسية تتغيّر، دون أن تترك في القلوب جرحاً. لكنّ التعرّض للأعراض، والافتراء، والكذب، خصوصاً عندما يكون من قبل أشخاص تعتقدهم أقرباء، يترك جرحاً يصعب أن يلتئم مع زوال الحصار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.