شعار قسم مدونات

صنع الصراع والاستثمار فيه

Blogs- leader
تتناول التحليلاتُ السياسية للصراع أدوارَ الفاعلين فيما يعرف بنظرية المباريات. يبحث المحللون عن الفاعلين في الصراع وإمكانات كل فاعل وأهدافه وبالتالي ماذا يتوقع أن يحصل عليه كل لاعب في نهاية الصراع كأنها مباراة رياضية، وتقاس قوة المحلل بمدى إلمامه بأطراف الصراع الظاهرة والخفية وإمكانات كل طرف وأهدافه المعلنة وغير المعلنة. هذا هو الشائع في تحليل الصراع، وهو ما يدرس في الأكاديميات تحت مسمى (نظرية المباريات).
                                
ومن خلال التأمل في أزمة الخليج الحالية (حصار قطر) يمكننا التعرف على مستوى جديد من التحليل السياسي للصراع بين الدول اسمه (صنع الصراع والاستثمار فيه)، فمن خلال النظر في هذا المستوى نستطيع أن نقسم أطراف الصراع إلى قسمين رئيسيين، قسم يصنع الصراع ليستثمر فيه، وقسم يحضر الصراع مستهلكًا. وبالتالي يجيب هذا الاقتراب (أو المستوى أو المدخل، وليست مترادفات ولكن ثمة مساحة للتحرك بين المصطلحات، فليسامحنا الزملاء من الأكاديميين) على عددٍ من الأسئلة، تحدد -هذه الأسئلة- مقولات الاقتراب من أهمها، من الذي يصنع الصراع؟ وما طبيعة الاستثمار فيه؟ ومن الذي يحضر الصراع مستهلكًا يتحمل تبعاته ويخرج منه خاسرًا؟ 

              

يدفعنا للتفكير بنظرة الاستثمار والاستهلاك حال تحليل الصراع المعرفةُ المتراكمة والواقع المشاهد عن طبيعة القوى المهيمنة على العالم هذه الأيام، فالمنظومة الغربية المسيطرة الآن تنطلق من مفهوم الصراع في كل شيء وليس السياسة وحدها. فحيث وجد هؤلاء فإنهم يسعون إلى إدارة صراع ومحاولة الإفادة منه، وإن لم يجدوا صراعًا حاولوا صنعه، والاتحاد بينهم (الهوية الجماعية لبعض الدول) تفرضه الضرورة فقد استسلموا لقوة مهيمنة واستقام بعضهم في هوية جماعية كي يتمكنوا من موارد وأسواق غيرهم ولا يخلوا هذا الاتحاد من صراع داخلي ظاهر أو مكتوم، وعلى العكس تمامًا المنظومة الإسلامية التي تقيم الحياة على الاجتماع والتوحد والتخلص من أي خلاف، وبناء مجتمع متماسك صلب. 

            

قادة النظام العالمي هم الذين يحدثون تحولات في المنطقة على خطوات مسلسلة، لإشعال الصراع والاستثمار فيه ، وكل تكاليف هذه الحرب متعددة الأبعاد الشرسة  تدفعها الأمة المسلمة.

بهذه الأداة التحليلية (صنع الصراع والاستثمار فيه) يمكننا فهم العديد من الصراعات، أو التعاطي مع الصراعات القائمة بطريقة مختلفة تكشف وجود تجار للصراع يستثمرون فيه، وخاسرون يخرجون من الصراع وقد أُخذ منهم ثقافيًا وسياسيًا وعسكريًا، فحين تنظر للصراع في اليمن والعراق والشام والصراع مع دولة قطر وتسأل من الذي يصنع الصراع؟ وما أدواته؟ ومن الرابح (المستثمر)، وبالتالي من الخاسر؟ وما طبيعة المكسب والخسارة (عسكرية، سياسية، اقتصادية، ثقافية)؟ لن تجد صعوبة في الإجابة على هذه الأسئلة، فالتعاطي مع الصراع من خلال هذا المستوى في التحليل يكشف أبعادًا أخرى للفهم، يكشف عن وجود طرف يصنع الصراع بحثًا عن أرباحٍ سياسية واقتصادية وثقافية وعسكرية، وأطرافٍ تأتي الصراع حين يشب ويشتد تبحث عن ربحٍ فيه، وأطراف تجر جرًّا للصراع كي يؤخذ ما في يديها وتخرج خاسرةً. 

             

تناسب هذه الأداة التحليلية (صنع الصراع والاستثمار فيه) طبيعة الحروب هذه الأيام، والتي تطورت ولم تعد بالجيوش وحدها، والتي أصبحت أكثر وحشية من الحروب النظامية (إفقار، وتخريب للديار، وقتل، وترحيل، وأمراض)، ومستمرة لا تنقطع فقط تهدأ وتشتد، وتستهدف جميع مجالات الحياة، وتطال المدنيين أكثر مما تطال العسكريين، وتستهدف الهوية كما تستهدف المال والسلاح. وتحدث تحولات جذرية في الجغرافيا وفي السياسة وفي كل شيء. 

           

ودعنا نسأل، الصراع في المنطقة العربية (تونس، وليبيا، ومصر، والشام، والعراق، والخليج) من الذي يصنع الصراع ويستثمر فيه؟ من الرابح ومن الخاسر؟ وما طبيعة الربح والخسارة؟ حاول أن تصعد فوق الجغرافيا وأن تنظر للمشهد من أعلى بهدوء، ستجد أن قادة النظام العالمي يحدثون تحولات في المنطقة على خطوات مسلسلة، إشعال الحرب لحرق الموجود، لتخريب العمران كما فعل التتار، ويزيدون على شراسة ووقاحة التتار بأنهم يخربون بيوتنا بأيدي بعضنا ومن أموالنا وبرجالنا، وبعد التخريب يعيدون (بناءها) من جديد على قواعدهم هم أو يتركونها منهكة لا تستطيع أن تنهض قبل مئات السنين. يكسرون عظام الأمة كي لا تنهض، ويتاجرون ويربحون. هؤلاء هم الذين يصنعون الصراع ويستثمرون فيه، وكل تكاليف الحرب متعددة الأبعاد الشرسة هذه تدفعها الأمة المسلمة. 

        

ولن يربح من تواطأ مع الأعداء من الحكام والنخبة المثقفة، فبديهي أن التحولات الجذرية التي تحدثها الحروب تذهب بأنظمة الحكم، ومن يحاول التأقلم فسينسلخ من جلده كليةً ولا يرضى بهذا حُرٌّ أَبِيّ. المشهد في جملته سوق، أو قتال، أو صراع تصطف فيه الشعوب وقلة من الحكام الأحرار ضد الخارج وعامة الحكام، والله أسأل أن يمكّن للشعوب من حريتها وأن يبارك في سعي القلة القليلة من الحكام الذين اصطفوا مع المقهورين في زمن عز فيه المعين. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.