شعار قسم مدونات

عندما رأيت الكعبة

blogs الكعبة المشرفة
في أحد مواسم الصيف التي تبدو كذكرى حالمة، ربما مضى عليها 7 سنوات، كنا قدر قررنا أن نذهب في رحلة إلى الأردن لنقضي بضعة أسابيع نرى فيها العائلة و"نغير جو". انطلقت سيارة والدي ذات الدفع الرباعي من الإمارات إلى عمّان بعد أن تجهزت للرحلة بفطائر أمي المعتادة، وكيس كبير من الفشار، وأعتقد كان هناك الكثير من الفاكهة.. لا داعي لأن أتحدث عن متعة قضاء الصيف في الأردن، فمن يعرفني يعرف أنني أوصي به كبديل للسفريات المكلفة في بلاد الفرجنة.. أحب عمّان وضواحيها وأستمتع بالتجول فيها.. أما الفرصة التي واتتني حتى أزور الجامعة الأردنية -التي كان حلمي الأول أن أتم درجة الدكتوراه هناك- فقد كانت بمثابة زيارة إلى حلم قديم لم يكتمل.. تذكرني الأردن بفلسطين التي لم أعرفها.. ربما لهذا أجدها قريبة جداً..

أين حديث الكعبة يا أحلام، أليس هذا عنوان المدونة؟
نعم حسناً سأصل إلى ذلك الجزء، أمارس عادتي في الاستطراد فقط!

في رحلة العودة من عمّان إلى الإمارات، أذكر أننا انطلقنا ليلاً، كان يفضل أبي بداية رحلاته مساءً، حتى يتجنب الحرّ الشديد في صحراء الجزيرة. في وقت ما قرر أننا سنذهب إلى المدينة بدلاً من العودة مباشرة، سنذهب إلى المدينة ثم إلى مكة لكي نعتمر.. أعتقد أننا وصلنا المدينة عند صلاة الظهر.. دخلنا الحرم.. وصلينا.. أذكر جيداً تلك اللحظات.. هي مرة واحدة فريدة التي تسنى لي فيها أن أقترب كل ذلك القرب، كنت غاضبة جداً.. بل حانقة.. لم يكن الوقت وقت النساء لزيارة القبر.. بكيت كثيراً واشتكيت له كثيراً.. قلت: لقد أتيت أخيراً ووصلت ولم يسمحوا لي.. من هم حتى لا يسمحوا لي؟ هل يحق لأحد أن يحرمني من رؤيتك؟ أزعجني كثيراً أن المكان كان فراغاً أو شبه فارغ.. أذكر جيداً الاتساع.. فقد تعجبت منه.. ولكنها القواعد.. ليس هو بالوقت الخاص بالنساء.. عودوا في وقت لاحق..

نعم نحن العائلة التي تسافر في سيارتها بثمانية أفراد تسابق الزمن لأنها تعبر من البلاد عبوراً يوم كان ذلك مسموحاً.. لا أعرف إن كان مازال مسموحاً الآن.. سنذهب في رمضاء يوم صيفي ونعود في وقت آخر.. عندما تسمح قوانينكم.. دعوني أقول بأنني خرجت من الحرم المدني ذلك اليوم كسيرة القلب.. واسيت نفسي كثيراً بأنني كنت في حرمه وعلى مقربة لم أكن أحلم بها.. أخذت أشاغل نفسي وأنا أغادر المدينة بأن هذه الطرق كانت يوماً ما طرقاً سار فيها وساروا.. عاشوا بين جنباتها.. تذكرهم هي وتحفظ عهدهم..

عندما رأيت الكعبة حاولت كثيراً أن أغمض عيني عمّا هو سواها.. وعندما غادرت حاولت كثيراً أن لا أبقي منها سوى تلك النظرة الأولى.. النظرة التي تتطلع إليها ولم أقترب منها بعد..
عندما رأيت الكعبة حاولت كثيراً أن أغمض عيني عمّا هو سواها.. وعندما غادرت حاولت كثيراً أن لا أبقي منها سوى تلك النظرة الأولى.. النظرة التي تتطلع إليها ولم أقترب منها بعد..

وصلنا مكة فجراً.. قبل الفجر بقليل.. كانت قديمة ومتهالكة.. كانت متواضعة جداً.. آلمني ذلك.. قلت كيف تكون مكة هكذا؟ تعجبت.. ثم مضينا إلى الحرم.. كان فيه أعمال ترميم أيضاً.. لسبب ما يبدو لي أن الحرم منذ ولدت وهو يمر بأعمال ترميم أو توسعة من نوع ما.. خطوت إلى الداخل.. أين هي؟ لماذا لا أراها؟ تبدو كبيرة جداً على التلفاز؟ ألا يجدر بنا أن نرى الكعبة الآن؟ تابعنا المسير حتى اقتربنا كثيراً.. ولم تظهر إلا عندما سمحت لنا أسقف الأقواس التي تحدد مداخل المصلى بأن نرى السماء.. نعم الآن أراها.. يقولون بأن دعاءك الذي تدعوه في أول مرة ترى فيها الكعبة مستجاب..

كنت حضرت في نفسي شيئاً أدعو به، ولكنني عندما وصلت أحسب بأنه لا دعاء يسعفني في المقام.. لا رغبات تشغلني الآن.. فقط التواجد والتسليم هو ما ينبغي.. تذكرت عمر ابن لخطاب وحديثه عن الحجر الأسود.. فأنا أيضاً لولا أن الله أراد لنا ذلك لما كان لهذه الكعبة التي تخطفت نفسي أثر علي، ولما أحسست وأنا أطوف بها وكأنني وصلت إلى مكان جديد لم أعرفه من قبل.. لا في الجغرافيا.. ولكن في أماكن النفوس.. لسبب ما تمنيت لو أنهم لم يغطوها بذلك السواد.. أردت رؤية ما تبقى من أحجارها التي شهدت كل شيء.. أن أرى حقيقتها التي لم تكن منمقة ولا مزينة.. حقيقة تمسّح بها الخاضعون المتذللون.. المتخففون من كل لقب وسلطان.. المتسابقون لإظهار التخلي..

عندما رأيت الكعبة لم أستطع أن أترك نفسي التي تبحث عن الله تهيم دون أن ترى كل ما يكدر عليها ذلك.. رأيت مع الجلال والبهاء الكثير من الادعاء.. ورأيت مع اجتماع الناس تحت سقف واحد الكثير من الخصام.. رأيت الزحام في السعي بين الصفى والمروى.. التدافع والتناحر.. لا ليس لهذا كانت الرحلة.. والناس تتعامل مع الموقف كما تملي عليها غريزتها.. ادفع حتى لا يدفعك الآخرون، حذار أن تسقط حتى لا تدوسك الأقدام فلن تستطيع القيام.. أسأل نفسي ألهذا كان الحج؟ ألهذا كانت العمرة؟ حتى يموت أناس في التدافع وآخرون لسوء التقدير؟ هي أعمار وأقدار.. يقولون.. ولكن أكان ينبغي أن ينتهي العمر بهذه الصورة؟ لأننا حتى في أكثر أعمالنا التعبدية تركاً للدنيا وتحللاً منها يدفعنا الحرص والتنافس على أن نذهب أرواحنا وأرواح الآخرين؟

عندما رأيت الكعبة حاولت كثيراً أن أغمض عيني عمّا هو سواها.. وعندما غادرت حاولت كثيراً أن لا أبقي منها سوى تلك النظرة الأولى.. النظرة التي تتطلع إليها ولم أقترب منها بعد.. أمشي نحوها مع السيل كأن الشوق يأخذني لا الطريق.. أقول متى أذهب إليها من جديد.. ولأنني ممن يؤمنون بأن حجاً واحداً يكفي.. فهذا مناط التكليف.. فأنا أهاب ذلك الحج كثيراً.. لأنني أعرف أنني لن أستطيع أن لا أرى.. ولن ينفعني إغماض العيون ولن يجدي تجاهل الصورة.. أخاف أن يجعلني الحج أفر إلى الله بعيداً عن ما قد أراه فيه.. بدلاً من أن يأخذني إليه لما وضعه في نفسي.. فيارب.. ارزقنا حجاً إليك على الوجه الذي ترضاه ولا تحرمنا تلبية أذانك..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.