شعار قسم مدونات

عيد الغرباء

blogs - Eid al-Adha
يستعد الغسق للمغيب وراء الأفق، ونحن جالسون هناك نندب حظنا العاثر في الحياة.. حظنا الذي ما ابتسم يوماً لنا، ما جاملنا ولو بلحظات فرح صغيرة تلمس أرواحنا، كي نتذكرها لا أكثر.. وها هو العيد يوم جديد يأتينا ليذكرنا برتابة الأيام وتواترها المفرط في البطء. حظنا؟ وهل نؤمن نحن بالحظ أصلاً؟ إن الكلمة مضحكة عند محاولة فهمها وتفسيرها.. لكنه فعلاً العيد.

إنه عيد الغرباء، والغرباء وحدهم يقضون الوقت بالتفكير والتمحيص في أحوال الدنيا وحالاتها وحوادثها الجسام.. يفكرون ويحللون فيما غيرهم يستمتعون وينسون كل ما حولهم ويعتبرون كل يوم عيداً لهم.. إلا الغرباء لهم أيام معلومة يعيّدون فيها ويستنشقون نسيماً مختلفاً في هذا اليوم بالذات فلا يفكرون.

قالت لي إنها تكره العيد، والأيام الأخرى أفضل وأبسط وأكثر حنية على قلبها المتعب، تحاول جاهدة أن تستمر بالفرح أو ربما تتظاهر فيه من أجل أطفالها على الأقل فلا ذنب لهم بقسوة ما عايشته هي، فالثياب الجديدة تفرحهم والبلالين المنفوخة تبهرهم.. والآيس كريم يأخذ عقولهم.. والشيكولاة آآآخ منها الشيكولاة كم ترفرف لها قلوبهم الصغيرة.. أفلا تتظاهر إذن بالفرح من أجلهم؟

قلت لها: لكنه يوم لكِ.. تظاهري ومَثّلي على نفسك وصدقيها، أتعلمين أنني أشتري لنفسي ثوباً جديداً في كل عيد، كي أشعرني بالفرح ولو كذباً، اعرف أنه يوم واحد وأن الثياب مكدسة في الخزانة وأن الحالة المادية صعبة، لكن أليست الثياب والتسوق يسري عن أنفسنا قليلاً.. قليلاً فقط؟ أتعرفين أنني أصر على التقاط صورة عائلية في كل عيد.. صورة نبتسم لها، للصورة فقط ومن أجلها، ومن أجل الذكريات.. ومن أجل البنات.. كي نراها معاً في المستقبل وننسى ما كان قبلها من مشاحنات وما جاء بعدها من روتين قاتل.

هو عيد الغرباء.. والغرباء ليسوا متشائمين لكنهم يفكرون أكثر من غيرهم ليس إلا، هم يعيشون حياتهم ويبتسمون على الدوام ويعملون وينجزون وينجبون ويلعبون مع أطفالهم بحبّ حقيقي.

إنه عيد الغرباء، فلماذا لا نُعيّد؟ لما لا نحاول أن نرسم البسمة على أمثالنا من البسطاء الذين يذبلون طوال الأيام الأخرى ونمدّ لهم أيدينا في هذا اليوم لنتشارك غرابة قلوبنا عن هذه الدنيا؟ عادي.. سنشعر معهم بالفرح. قد يكون من النرجسية التفكير أنني ومن يشبهني في الهم والتعب والاغتراب عن هموم البشر اليومية مختلفون، ومن التشاؤم التأكيد على وجود هذا الشعور بيننا، لكنا عادة ما نكتب عن الهموم كي نشعر بتفاهتها.. تماماً كشعوري الآن وأنا أصل لهذه النقطة هنا.

صعب جداً أن ننسى الناس وأحوالها وما يعيشون فيه من حروب وأزمات تفتت قلوبنا من بعيد وتجعلنا نشعر بالعجز ولا شيء غيره، وبالبؤس وبانطفاء شعلة القلب ولا شيء غير ذلك.. ولهذا نشعر بالغربة ونحن بين الناس ونغبط أولئك الذين ينسون كل شيء بكل سهولة ويقضون أيامهم بتجاهل وإنكار فيشعرون بالسعادة، أؤكد لكم أنهم يشعرون بالسعادة أكثر منا.

إنه عيد الغرباء منا، عيد الذي يشعر بالحب تجاه الأرض والسماء والمطر والطبيعة فيحزن حزناً لا مبرر له عندما يمر صباحاً من أمام عربة القمامة المتكدسة بالبلاستيك والطعام المتبقي والقطط المتشردة تلعقه وتأكله، هو عيد الذي يغضب عندما يرى الأطفال ورؤوسهم مختفية بين رقابهم المنحنية على أجهزة ذكية ليل نهار وأهلهم يقضمون المكسرات بارتياح عجيب.. عيد الذين يبكون على أشخاص لا يعرفونهم وهم يرون نصف أجسادهم مرمية تحت الركام والرماد والقنابل..

هو عيد الذين يبتسمون فقط للمساكين، للاجئين إلى الله في أرض تلفظهم في اليوم مئة مرة.. عيد للذين ينتظرون التاريخ كي ينقلب ليكتب تاريخ آخر سعيد.. لكنه أخذ وقتاً أطول مما أعتقدوا وآمنوا وصلّوا ليل نهار.

هو عيد الغرباء.. والغرباء ليسوا متشائمين لكنهم يفكرون أكثر من غيرهم ليس إلا، هم يعيشون حياتهم ويبتسمون على الدوام ويعملون وينجزون وينجبون ويلعبون مع أطفالهم بحبّ حقيقي وفرح غير مصطنع، الفارق الوحيد بينهم وبين غيرهم أنهم يشعرون بالضيم والظلم الذي يعيشه الآخرين كأنه يقع عليهم.. وهم ببساطة يشعرون بالغربة بمجرد أن يقابلون أشخاص همهم في الحياة مصالحهم وسعادتهم الشخصية، إذن هو عيد الغرباء.. أفلا يستحق الغرباء عيداً؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.