شعار قسم مدونات

أسطورة الأدب الإسلامي

blogs - مكتبة
أثناء قيامي بالبحث في مراجع الأدب الإسلامي، وقعت على كثير من المقولات والعبارات المثيرة للجدل، أو التي لا يمكن القول بالاتفاق حولها، إلا أن "صنفاً" معيناً من هذه المقولات يصدح بعبارات مثل:
– "إن الأدب الإسلامي غنيّ عن كل إضافة وافدة لأن صفة الإسلامية تكفيه".
– " لا نقبل فيه ولا نسمي أدباً إسلامياً إلا ما علا وسما من نتاج أدبي".
– " ولا عبرة لمن يزعم قلة النتاج الأدبي الإسلامي بسبب عدم اطّلاعه… إن أكثر من خمسين ديواناً شعرياً مطروح الآن في المكتبات، تظاهره عشرات القصص والمسرحيات".

ماذا أريد من نقل هذه العبارات؟
القضية ليست قضية أدب فقط، القضية قضية نظرة كثير من المثقفين الإسلاميين والمفكرين لمظاهر الحضارة على أنها مقدسة، لا يمكن ولا يجوز المساس بها، وهذا عيب واضح في الفكر وفتح لباب كبير يدخل منه الخَوَر والضعف إلى الحضارة.
عندما أقول: إن الأدب الإسلامي في غنى عن الإضافات، ويكفيه كونه إسلامياً، فكأنني أقول: أي شيء تضفى عليه صفة الإسلامية لا يحتاج إلى تقويم وتطوير، وإن كان القصد أن صفة الإسلامية تكفيه بمعنى أن ارتقاءه إلى صفة الأدب الإسلامي تكفيه بحكم أنني لا أقبل سوى "ما علا وسما" من النّتاج الأدبي فهذا غير منطقي ولا موضوعي ولا علمي ، بل فيه إخلال بطبيعة الحضارات وتكوينها الطبيعي.

من الذي وضع أسس تصنيف الأدب إسلامياً؟ أيكون إسلامياً إن لم يتطرق لمواضيع الحب والعشق؟

ثم عندما يُقال ما قيل عن "غزارة" الإنتاج الإسلامي، فهذا يجعلني في حيرة من أمري، عندما نذكر خمسين ديواناً شعرياً فقط و"عشرات" القصص والمسرحيات إسلامية الطابع في مقابل مئات الدواوين التي تزخر بما هو "غير إسلامي"، وآلاف مؤلفة من المؤلفات التي تغصّ بها مكتبات العالم الإسلامي، من أبناء بلاد الإسلام قبل غيرهم، فعن أي غزارة نتحدث؟ ثم إن هذه المقولة وردت في كتاب قبل 26 عاماً! ألم يكن حريّاً إذن بهذه "الأعمال" أن يظهر أثرها في وقتنا هذا؟ مصيبة، بل هي طامة كبرى عندما ننتقل من تقديس روح الحضارة إلى تقديس مظاهرها، سواءً تمثلت في أشياء أو أفكار أو أشخاص.

إن هذه العملية من التعمية على العقل، والتوقف عند المسميات، والبعد عن الحياد والموضوعية، والتي تتعارض حتى مع تعاليم الإسلام نفسه، لهي أشد خطراً مما قد يواجه الإسلام من الخارج، لأن ما يأتيك غريباً تُعرَفُ غرابته، ويُعرفُ أصله وإن ألِفته، أما ما يصدر من الداخل فينخر في الجسد دون أن يحسّه أحد!

مثال آخر: يقول أحدهم بأنه لا يجدر بالشعر الإسلامي أن يكون إلا عمودياً، لأن الشعر الحر كما يسمّى أو شعر التفعيلة شعر ذو طابع تغريبي! حسناً! هل يعني هذا أن الشعر العمودي هو ذو طابع إسلامي؟ هو قالب جاهلي أساساً. ستقول: لأ، لقد اتسم بصفة الإسلامية نتيجة لانصهاره في الفكر والحضارة الإسلامية. أليس الشعر الحر بقادر على أن ينصهر ويتشكل هو أيضاً أم أنه ابن البطة السوداء؟ والخروف الأغبر؟

نحن المسلمون للأسف أصبحنا غير قادرين على التفريق بين الدين وبين المنتسبين إليه، بين الإسلام في جوهره وبين المسلمين!
نحن المسلمون للأسف أصبحنا غير قادرين على التفريق بين الدين وبين المنتسبين إليه، بين الإسلام في جوهره وبين المسلمين!

ثم من الذي وضع أسس تصنيف الأدب إسلامياً وغير إسلامي؟ أيكون إسلامياً إن هو لم يخلُ من الآيات والأحاديث والوعظيات مثلاً؟ أم يكون إسلامياً إن لم يتطرق لمواضيح الحب والعشق وغيرها من التي يعتبرها الـ"إسلاميون" من المفسدات؟ أليس الأولى أن نتحدث عن أدب المسلمين بدلاً من الحديث عن أدب إسلامي؟ ثم نحن نقيم العمل حسبما نرى من تماشيه مع القيم الإسلامية العامة التي هي قيم إنسانية لا خلاف عليها، ومدى إتقانه وتحليه بجماليات الأعمال الأدبية التي تستحق القراءة والاطلاع. أما أن نمشي بين الناس نخطب فيهم أن الأدب هو ما كان منه "إسلامياً" بالمعايير التي ابتدعوها وخلافه يلقى في القمامة فهذا أمر يدعو للسخرية ويثير الغثيان. 

فرق كبير بين أن نحترم الشخص لما اكتسبه من علم وأدب، وبين أن ننقل قداسة الدين إليه.

إن عادة التقديس التي سرت في محافل" الإسلاميين" – عن حسن نيّة أو سوء نية الله أعلم – واستغلها غيرهم للطعن في الحضارة الإسلامية، وفي الدين الإسلامي ليست حرزاً يحفظ الدين كما يظن البعض، بل هي إساءة وتشويه، الحضارة الإسلامية حضارة قائمة على الإتقان وتحرّي كل "ما علا وسما" أي نعم.. وقد استكمل الله لنا هذا الدين أي نعم.. ولكن وجب الفصل بين هذا وبين ما يُنسب إلى الدين، ليس كل ما ينسب إليه مقدساً بقداسته.. خصوصاً وأنه نتاجٌ بشري.. والبشر يخطئ ويصيب.. وحتى يُصوّب الخطأ لا بدّ من التعرف عليه أولاً.. أما أن أدفن رأسي في الرمال وأقول: نحن مكتملون باكتمال ديننا فهذا خيانة للدين ولأمانته قبل أن يكون خيانة للناس.

أعتقد أننا كما نلوم على المجتمعات الغربية خلطها بين العادات المجتمعية والثقافية وبين التعاليم الإسلامية، وجب علينا أن نلوم أنفسنا أيضاً. أواجه في سياق دراستي باحثين وغيرهم مما لا يعرفون عن الإسلام سوى الختان وقهر المرأة وغيرها من المماراسات التي ليست من الدين، بل هي خليط من التفكير الذكوري المقيت ممزوجاً بالكثير من العادات العقيمة. وكذلك نحن المسلمون للأسف أصبحنا غير قادرين على التفريق بين الدين وبين المنتسبين إليه، بين الإسلام في جوهره وبين المسلمين، أياً ما كانوا علماء أو عامة. أبسط مثال على ذلك الرفض التام والقاطع لأي انتقاد يوجه لمن يعتقدون بأنهم يمثلون بصورهم وأشكالهم ومعتقداتهم هذا الإسلام، ويرون في انتقاد لهم أو لسلوكياتهم تعدٍّ على الله ودينه، وكأنهم هم خلفاء الله في الأرض يحذون حذو بني إسرائيل ويمشون بين الناس بمبدأ نحن أبناء الله وأحباؤه.

فرق كبير بين أن نحترم الشخص لما اكتسبه من علم وأدب، وبين أن ننقل قداسة الدين إليه، كذك الأمر بالنسبة للمتابعين والمقلدين، وكذلك الأمر بالنسبة للإنتاج الذي يأتي به أياً كان، فلا ينسب للدين بل ينسب الأمر لمن أنتجه وخرج به، ويكون موضع مساءلة ونقاش كأي إنتاج بشري.

إن أسطورة الأدب الإسلامي من وجهة نظري يتجلى عوارها في كونها حذت حذو عبارات مثل "الأدب الماركسي" و"الأدب النسوي" و"الأدب الرومنسي"، لسان الحال: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. والإسلام لا يمكن تقنينه وتقييده بهذه الصورة، بل هو الميزان الذي تمر عليه المنتجات الثقافية فيقبل منها ما دخل ضمن منظومته الواسعة التي يمتد طيفها بامتداد الجمال النقي الخلص، ولا تقف عند مفضلات فئة بعينها أو رأيهم الفقهي المحدود الذي يقصي غيره ويستثنيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.