شعار قسم مدونات

إحداهما تمشي

blogs - woman
يقولون: إن أغزل بيت قالته العرب في الإسلام قول جرير[1]:

إنّ العُيُونَ التي في طَرْفِها حَوَرٌ *** قتلننا ثمَّ لمْ يحيينَ قتلانا

يَصرَعنَ ذا اللُّبّ حتى لا حَرَاكَ بهِ *** وهنَّ أضعفُ خلقْ اللهِ إنسانا

جرت عادةُ المحبين بتأمل أفعال أحبابهم فيرونها جميلة فيزداد الحب في قلوبهم، وكل فعل للحبيب جميل في عين حبيبه، والعادة في هذا مشهورة ذائعة، يقول الشافعي رحمه الله[2]:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة  *** ولكن عين السخط تبدي المساويا

وفي هذا المعنى نعرف قول عمر بن أبي ربيعة من قبل حين قال[3]:

فَتَضاحَكنَ وَقَد قُلنَ لَها *** حَسَنٌ في كُلِّ عَينٍ مَن تَوَد

نعم، هذه عادة المحب أنه يرى كل ما في حبيبه جميل، كما يرى كل جميل في الدنيا قد أصاب حبيبه منه الحظ الأوفر والنصيب الأتم.

ومن جميل ما تأمله الشعراء ووصفوه مشي الحبيب وما به من الرقة والعذوبة والتثني والمياسة، حتى إن الأرض لتقبل هذه الأرجل الرقيقة التي تسير عليها وتمنحها الجمال والبهاء، وحسبك من هذا قول ابن هانئ الأندلسي في إحدى مبالغاته:

وَلَوْ لَمْ تُصَافِحْ رِجْلُهَا صَفْحَةَ الثَّرَى *** لَمَا كُنْتُ أَدْرِي عِلَّةً لِلتَّيَمُّمِ

 

تمشي المرأة فتُفتن بجمال مشيتها قلوب الرجال، حتى قال  أبو الدّرداء رضي الله عنه‏:‏ خير نسائكم التي تدخل قيسًا وتخرج ميسًا وتملأ بيتها أقطًا وحيسًا، وشرّ نسائكم السّلفعة، التي تسمع لأضراسها قعقعة، ولا تزال جارتها مفزّعة‏. تدخل قيسا أي أنها إذا مشت نظرت إلى قدمها تقيس الخطوة إلى الخطوة فلا تطول إحداها عن الأخرى ولا تقصر بل مشيها منضبط لا اعوجاج فيه، وأما تخرج ميسا فمعناه أنها برغم مشيتها المنضبطة الهادئة غير المتعجلة فإنها أيضا متبخترة متفاخرة، تملأ بيتها أقطا وحيسا أي تصنع الأنواع المختلفة من الطعام والشراب فالأقط هو الجبن والحيس طعام يُصنع من التمر والجبن والسمن يُعجن ويُطبخ، وهذا يعني أنها امرأة متدللة هادئة رزينة مع كونها مدبرة خبيرة بشأن المنزل وما يصلحه، وأما شر النساء فهي السلفعة أي الوقحة المتجرأة على الرجال، صوتها مرتفع تسمع لأسنانها قعقعة كأنها في حرب مع زوجها مما يدفع جيرانها إلى الفزع منها ومن سلوكها المشين !

 

زينة المرأة الحياء وزينة الرجل المروءة، فامرأة بدون حياء رجل مشوه ورجل بدون مروءة امرأة قبيحة، فمن أرادت تحصيل تمام الجمال فعليها بالحياء في أمرها كله.
زينة المرأة الحياء وزينة الرجل المروءة، فامرأة بدون حياء رجل مشوه ورجل بدون مروءة امرأة قبيحة، فمن أرادت تحصيل تمام الجمال فعليها بالحياء في أمرها كله.

هذا يعني أن خير جمال المرأة يكون في حيائها وتدللها وهدوءها واعتدال مشيتها وانخفاض صوتها، فتتوصل بضعفها الظاهر ولطفها الجميل أضعاف أضعاف ما يتوصل إليه الرجال بسيوفهم وأصواتهم، وإذا انقلبت المرأة إلى ما عاكس طبيعتها فعلا صوتها وساءت ألفاظها وأسرعت في مشيتها وأفزعت من يحدثها لصفاقتها وجرأتها كانت مرذولة مستقبحة نازلة في أعين الناس، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهات من النساء بالرجال لأجل هذا الأمر.

 

جاءت الفتاة تمشي حيية فأكرمها الله تعالى أن تكون زوجة لنبي حيي، فالحياء كله خير كما قال الحبيب المصطفى.

كل هذه المعاني وجدتها تثور في ذهني وأنا أستمع قبل أيام إلى الشيخ محمود خليل الحصري رحمه الله وهو يقرأ قول الله سبحانه: "فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ۚ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ". القصص:25.
وجدتني أسمع الآية كأنيلم أعرفها من قبل، وأتوقف مع كل مقطع منها متأملا وأكرر الكلمات في نفسي مرة بعد مرة وأراجع كتب التفسير وأسبح في أنهار المعاني المتفجرة في كلمات الآية الجميلة الجليلة

(فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا) لماذا لم تأتيا معا وقد كانتا اثنتين مترافقتين؟
(إِحْدَاهُمَا تَمْشِي) لماذا لا تسعى أو تهرول أو تصرخ أو تنادي؟ فقط وبكل هدوء ووقار "تمشي".
(تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) لماذا لم يكن التعبير عن مشيتها أنها تمشي بحياء أو تمشي مشية حيية بل تمشي وكأن الحياء بساط تدوسه بقدمها فلا تكاد قدمها الأرض تمس الأرض لفرط حيائها، ثم لعل الحياء كان من موسى كما  كان من الفتاة فالله تعالى لم يعيين المستحي منهما بل قال إن الحياء كان يلف المشهد كله بما فيه من تفاصيل.
(عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ) كان حياؤها ملازما لها حال مشيتها وحال كلامها وفي كل أمرها فلا يرتفع صوتها ولا يحوي الهذر والتكسر والخضوع بالقول حديثها، بل ولعلها تستر وجهها أو فمها بيدها أو بطرف ثوبها مع نظرها إلى الأرض أثناء تكلمها فيكون الصوت أخفض والحياء في القول والفعل أتم.

(قَالَتْ إِنَّ أَبِي) هكذا هو الأمر إذن؟ لا علاقة لمجيئها بها ولا بسبب يخصها، فقط هو أبوها صاحب المصلحة والحاجة أما هي فليست إلا مجرد رسول فقط حتى لا يظن بها السامع شرا.
(إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ) ستأتي معنا إذن تلبية للدعوة من رجل كبير السن لا يقوى على الحركة فليس لك إلا أن توافق على دعوة هذا الشيخ الكبير الذي سبق وأخبرتك أنا وأختي أن الذي دفعنا إلى العمل والخروج بالغنم هو كبر سنه وضعف جسده.

(يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ) فالدعوة مسببة وليست مجهولة السبب فتتحرك نفس المدعو وتروح أفكاره في المعاني وتجيئ، إنها فقط دعوة للشكر والتحية والجزاء نظير خدمة السقي المقدمة سلفا، فقام موسى معها لكنه اشترط أن يسير أمامها بعد أن قال لها: انعتي لي الطريق فإنا لا نتبع أدبار النساء، وفي هذا من الحياء والصيانة والحشمة ورعاية الحرمات ما فيه.

كل هذه الشلالات العذبة من المعاني الرقراقة وجدتها تسيل سلسبيلا حلوا في بين تاء تمشي ويائها، جاءت الفتاة تمشي حيية فأكرمها الله تعالى أن تكون زوجة لنبي حيي، فالحياء كله خير كما قال الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان أشد حياء من العذراء في خدرها.

أيها الناس:
إن زينة المرأة الحياء وزينة الرجل المروءة، فامرأة بدون حياء رجل مشوه ورجل بدون مروءة امرأة قبيحة، فمن أرادت تحصيل تمام الجمال فعليها بالحياء في أمرها كله، ومن أراد تمام الرجولة والمكانة فعليه بالمروءة والتحشم في أمره كله ، والعاقل من صان نفسه وكرمها، والأحمق من أهانها وأذلها، والسلام.

___________________________________

* هامش: 

[1] – في قصيدته التي يقول في مطلعها: بَانَ الخَليطُ، وَلَوْ طُوِّعْتُ ما بَانَا *** وقطعوا منْ حبالِ الوصلِ أقرانا

[2] – في أبيات له هذا أولها، ثم قال بعده: وَلَسْتُ بَهَيَّابٍ لمنْ لا يَهابُنِي *** ولستُ أرى للمرءِ ما لا يرى ليا

[3] – في قصيدته التي يقول في مطلعها: ليت هنداً أنجزتنا ما تَعدْ *** وشَفَتْ أنفسنا مما تَجِدْ

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.