شعار قسم مدونات

الشعب الذي أمسى بطلا فأضحى وغدا

blogs - شباب مصر في الثورة
"افعلوا هذا بـجوليا".. كانت تلك هي الصرخة التي أنقذت وينستون أخيرا من العذاب غير المتصور الذي تعرض له في الغرفة 101 الرهيبة بأحد أقبية وزارة "الحب"، حين ترجى معذبه أن يطلق سراحه ويرحمه من هذا الألم بأي ثمن حتى وإن كان الثمن هو تعذيب حبيبة قلبه جوليا بالعذاب نفسه حتى الموت. رواية 1984 لـجورج أوريل.

أحيانا لا يجد المرء مفرا من الألم المادي أو المعنوي إلا بإلقاء اللائمة على غيره فيما يسمى في علم النفس بالإسقاط، وهو آلية غير ناضجة -كما يصنفها علماء النفس- للتعامل مع الضغوط النفسية، قد تتطور إلى ظاهرة مرضية كالإسقاط المفرط، وهو الإنكار المفرط للعجر الذي بداخلة أو غيره من الأفكار السلبية ونسبتها لشخص آخر، أو الانفصام، وهو أسلوب بدائي ويسمي أسلوب التفكير أبيض/أسود، أو أسلوب الكل أو اللاشيء، بحيث يصعب جمع صفات حسنة وسيئة في أحد ما في وقت واحد، فهو إما أن يكون بطلا شهما أو وغدا حقيرا.

فلا شك أن العواقب الوخيمة المترتبة على الانقلاب العسكري في مصر، والألم الناتج عنه سواء المعنوي أو المادي قد أثر بشكل كبير على نفوس وعقول نشطاء ثورة 25 يناير بوجه عام، والإسلاميين منهم بوجه خاص، فهم من تحمل العبء الأكبر من التنكيل والمعاناة بتصدرهم المشهد بعد الثورة واعتلائهم المناصب العليا بالبلاد.

لا يعقل أن تنعت مجموعة من البشر بأنهم رجال مثل الذهب أو أنهم كانوا في القلب من ثورة يناير، ثم تطالب الجماهير أن تثور عليهم بعد أيام معدودات، أو تهتف بحرارة:
لا يعقل أن تنعت مجموعة من البشر بأنهم رجال مثل الذهب أو أنهم كانوا في القلب من ثورة يناير، ثم تطالب الجماهير أن تثور عليهم بعد أيام معدودات، أو تهتف بحرارة: "الجيش والشعب يد واحدة".

فلم يجد أغلب هؤلاء بدا من مسح نجاسة فشلهم بقميص شخص افتراضي يدعونه "الشعب"، ومن ثم نعته بأقبح الأوصاف كعبد – ديوث – حقير – منافق – … وغيرها من الصفات الدنيئة، وربما نسوا أو تناسوا أن ذلك الشخص المدعو شعبا كان يوصف قبيل الانقلاب بـالواعي – الشجاع – الشهم – العظيم…. كما كان يحلو لبعضهم أيضا مقارنة شعبهم المسكين هذا بآخر ساهم في إفشال انقلاب كاد أن ينجح بأدوات مشابهة، ومن الطريف أن تظهر تلك المقارنة في صورة ينشرونها على مواقع التواصل الاجتماعي يظهر فيها "شعبهم" واضعا بوطا عسكريا على رأسه أما الآخر فيجلد ضابطا بحزامه مؤدبا له على مشاركته في محاولة الانقلاب، تشبه تلك الصور في سذاجتها وسطحيتها الصور التي يرشدون بها الأطفال لضرورة غسل أسنانهم قبل النوم، فيظهر على جانبها الأيمن طفل جميل مبتسم ناصع الأسنان وتحتها علامة (صح) وعلى جانبها الأيسر طفل آخر حزين يبكي من ألم أسنانه وتحتها علامة (خطأ).

لكن كيف تحول ذلك "الشعب" من بطل ثائر سطر بدمائه أحد أعظم الثورات الشعبية في التاريخ الحديث إلى "عبيد بيادة" يرهبهم العسكر بعصيهم ودروعهم، ومن "شعب" واع استطاع تجاوز "المؤامرات الكونية" واختار الحل "الثوري" في خمسة استحقاقات انتخابية إلى "شعب" متخلف جاهل يلهث وراء التحريض الإعلامي المغرض، ومن شعب كريم شهم يبذل الغالي والنفيس لبناء وطنه ومجده إلى ناكر للجميل والأيادي البيضاء التي لا يزال يرفل في نعيم صدقاتها؟!

الشعب لم يكن وغدا ولا بطلا يوما ما، لأن الشعوب أسيرة نخبتها ورهينة إشارة من يتولى قيادتها ويجيد تحريضها ومن ثم توجيهها، فمن أراد أن يحكمها فليتعلم خصائصها.

الحقيقة أن الشعب كما هو لم يتغير، ولكن قصور إدراك القيادة السياسية حينها لحقائق كونية راسخة رسوخ الجبال هو الذي أوهمهم بهذا، وربما يرجع هذا إلى جهل صانعي القرار منهم بعلوم النفس والاجتماع بالرغم من ادعائهم المستمر بعمق خبرتهم المترتبة على عشرات السنين التي قضوها في العمل المجتمعي التحتي، فأغلبهم من أصحاب الشهادات الأكاديمية الرفيعة في الهندسة والطب وعلوم الحيوان والنبات وليس فيهم صاحب شهادة في علوم الإنسان الذي أرادوا حكمه.

ومن تلك الحقائق الكونية التي ربما غابت عن أذهان صناع القرار حينها بالرغم من وجودها منذ عشرات السنين في كتب علم الاجتماع البدائية كـسيكلوجية الجماهير لـ جوستاف لوبون، أن تلك الجماهير الغفيرة حين تثور ثورتها تكون تصرفاتها واقعة تحت تأثير النخاع الشوكي أكثر مما هي واقعة تحت تأثير المخ أو العقل، لذلك فهي تتأثر بشدة بالمحرضات الخارجية التي من الممكن أن تصيبها بشكل من أشكال الهلوسة ربما تعطل عندها غريزة حب البقاء فينتج عن ذلك أعمال يراها الناس بعد ذلك بطولية غاية في الجرأة.

وبما أن أغلب تلك الأعمال الثورية البطولية تقع غالبا تحت تأثير "اللاوعي" فسرعان ما ترغب الجماهير في العودة إلى سيرتها الأولى من الحياة اليومية الرتيبة وتسأم سريعا من الفوضى التي خلفتها ثورتها، كما أنها تتأثر جدا بالتغييرات الشكلية للمؤسسات التي ثارت عليها في البداية دون التغييرات الجوهرية، فإن لم تتلقف قيادة الثورة الواعية نتائج تلك الموجة العارمة سريعا وتحدث تغييرات جذرية فسيكون النصر حليف الثورات المضادة خاصة حينما تطيل أمد الصراع وما يحدثه من معاناة.

الحقيقة الأخرى التي يتحدث عنها (لوبون) في كتابه هي تأثير العقائد والعادات والتقاليد على سلوك الجماهير، وأن تلك العقائد تحتاج إلى أحداث جسيمة وأزمنة مديدة لزعزعتها ومن ثم الثورة عليها، فلا يعقل أن تنعت مجموعة من البشر بأنهم "رجال مثل الذهب" أو "أنهم كانوا في القلب من ثورة يناير" ثم تطالب الجماهير أن تثور عليهم بعد أيام معدودات، أو تهتف بحرارة "الجيش والشعب يد واحدة" ثم بعدها بأشهر قليلة تهتف بنفس الحرارة "يسقط حكم العسكر" متوقعا أن تتبعك الجماهير الغفيرة في الحالتين.

فـ"الشعب" لم يكن وغدا ولا بطلا يوما ما، لأن الشعوب أسيرة نخبتها ورهينة إشارة من يتولى قيادتها ويجيد تحريضها ومن ثم توجيهها، فمن أراد أن يحكمها فليتعلم خصائصها ليمتلك زمام أمورها، أما من أراد أن يسقط نقائصه عليها ويستر عورة فشله بمآسيها، فسيبوء بمصير ذلك الرجل الذي قاد أهله وعشيرته في صحراء قاحلة لم يكن يعلم عن دروبها شيئا ولم يكن معه فيها دليلا ولا "مرشدا".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.