شعار قسم مدونات

عسكرة الطب في مصر

blogs- مستشفى

بينما كانت تُعلن تونس على لسان رئيس حكومتها يوسف الشاهد، اسم وزير الدفاع الجديد، الطبيب عبد الكريم الزبيدي، كانت الأكاديمية الطبية العسكرية التابعة لوزارة الدفاع المصرية تُعلن عن "بورد عسكري" للأطباء، كشهادة طبية تخصصية تحت إشراف كلية الجراحين الملكية بالمملكة المتحدة، على أن يجري تدريب الأطباء لمدة 5 سنوات بالمستشفيات العسكرية، بمبلغ 15 ألف جنية للعام، وهو ما أثار لغطاً كبيراً داخل الأوساط الطبية في مصر، لخروج ذلك الإعلان عن الأعراف الطبية المصرية بجانب عدم ذكر أي شيء عن الموضوع على موقع كلية الجراحين الملكية، إلا أن قضية أخرى تخص الأكاديمية الطبية العسكرية كانت محل كتمان لشهور طويلة حتى شاء القدر أن يكشف عنها هذا المقال.

 

ربما لم يكن تقلد طبيباً منصب وزير الدفاع شيئاً جديداً في تونس، فلقد احتفظ المدنيون بهذا المنصب منذ قرابة 60 عاماً، كباقي دول العالم المتحضر، التي تعرف أنه منصباً سياسياً يُفصح عن تبعية الشأن العسكري للسلطة السياسية، إلا أن تعيين هذا الطبيب كان رمزاً جديراً بالتأمل في وقت تُعاني فيه عدد من الدول العربية مرضاً عضال بسبب تدخل المؤسسات العسكرية في الشؤون المدنية السياسية والاقتصادية ومؤخراً الطبية، وهو ما يحتاج طبيباً ماهراً لمعالجته وإعادة الأمر إلى نصابه الصحيح، وتصبح المؤسسة العسكرية كباقي مؤسسات الدولة تعمل لصالحها وتخضع للرقابة والمحاسبة وتمتثل لرغبات الشعب التي يعبر عنها في مسار ديمقراطي حقيقي عبر انتخابات نزيهة.

تم تعيين اللواء أحمد التاودي في منصب رئيس الأكاديمية الطبية العسكرية في ديسمبر عام 2014، رغم صدور حكم من المحكمة العسكرية العُليا ضده في فبراير عام 2012، بإدانته لتسببه في أحداث عاهة مُستديمة لمُجند وتغريمه 300 جنيه

وهو نقيض ما يجري في مصر تماماً بعد أن أصبحت مقدرات الدولة بالكامل تحت تصرف القيادات العسكرية تفعل فيها ما تُريد، ولم يبق هيئة أو مؤسسة واحدة تخلو من قيادة عسكرية، بل أصبح الحديث عن تلك القيادات حقل ألغام يتحاشاه الجميع خوفاً من بطش شديد لن يجرؤ أحد على منعه، وصارت تلك القيادات شخصيات حساسة لا يصح الكلام عنها أو ذكرها مهما بلغت تصرفاتها وأخطائها، بل الأشد من ذلك هو أن أصبحت تلك القيادات فوق كل شيء حتى أحكام القضاء، فلا يتم تنفيذ حكم نهائي صادر بحق أحدهم ولا حتى الحديث عنه.

 

ففي يوم 24 أبريل من عام 2016، أصدرت محكمة استئناف القاهرة حكماً نهائياً بحق اللواء أحمد حسن فوزي التاودي، رئيس الأكاديمية الطبية العسكرية، بوقفه عن ممارسة مهنة الطب لمدة 6 أشهر، وذلك عقاباً له على خطأه الطبي واهماله في حق المجند شنودة رايق سعيد ناروز، والذي أجرى له عملية استئصال دوالي بالساق اليُسرى، بمستشفى القصاصين العسكرية، على نحو مُخالف للأعراف الطبية المعمول بها بأن قام بقطع الشريان الرئيسي للساق وربطه بالمنطقة الأربية وعدم عرضه على أحد الأقسام المتخصصة في جراحة الأوعية الدموية، وهو ما أدى إلى انتشار الغرغرينة بالقدم اليسرى مما استوجب بترها"، وفق ما ورد في نص حكم المحكمة الذي حرص الجميع على بقاءه سرياً.

 

وفضلاً عن غرابة تعيين سيادة اللواء في منصب رئيس الأكاديمية الطبية العسكرية في ديسمبر عام 2014، رغم صدور حكم من المحكمة العسكرية العُليا ضده في فبراير عام 2012، بإدانته لتسببه في أحداث عاهة مُستديمة للمُجند -وتغريمه 300 جنيه-، فحتى بعد صدور قرار الهيئة التأديبية لنقابة أطباء مصر في فبراير عام 2015، احتفظ سيادة اللواء بمنصبه، بل الأكثر من ذلك أن الحُكم النهائي الصادر من محكمة استئناف القاهرة لم يتم تنفيذه حتى الآن بعد مرور قرابة عام ونصف، بل تم الحرص على أن يبق طي الكتمان دون أن يعرف أحد به، ليبق سيادة اللواء يشغل هذا المنصب الطبي العسكري الرفيع وهو مُدان بحكم نهائي.

 

"تم إنشاء الأكاديمية الطبية العسكرية بهدف تدريب وتأهيل الأطباء والصيادلة وهيئة تمريض القوات المسلحة، وذلك لرفع مستواهم الفني والعلمي والمهني، إيمانا بالرسالة المنوطة بها وهي أن العنصر البشري المدرب والمؤهل هو من أول اساسيات تقديم الخدمة الطبية المميزة" بهذه الكلمات عرفت الأكاديمية الطبية العسكرية نفسها على موقعها الإلكتروني، وهي كلمات في غاية الجمال كباقي الكلمات التي نسمعها كُل يوم، ولكن كيف لمؤسسة تعترف بأن العنصر البشري المدرب والمؤهل هو أول اساسيات تقديم الخدمة الطبية المميزة تضع في أعلى مناصبها طبيبا غير كفء صادر بحقه حكماً نهائياً لخطأ وإهمال طبي جسيم دفع أحد المجندين ثمنه غالياً بفقدان إحدى قدميه.

وكيف يمكن الثقة فيها بعد ذلك، وكيف يحتفظ هذا المسؤول بمنصبه بعد شهور طويلة من ذلك الحكم، وكيف لهذه المؤسسة أن تضرب بأحكام القضاء عرض الحائط لا لشيء إلا لأنه رتبة عسكرية لا يجوز التحدث عنها ولا عن المؤسسة التي يعمل بها، وإلى متى يبقى المسؤولون عن هذه المؤسسة فوق الرقابة والمحاسبة والانتقاد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.