شعار قسم مدونات

الذب عن أبي العلاء المعري (2)

مدونات - تاريخ علماء عالم شيخ قراءة
غَرِيَت بذمي أمةٌ.. وبحمدِ خالقِها غَريتُ

وعبدتُ ربي ما استطعتُ ومن بريّته بريتُ

 

قد تقدّم في مقالنا السابق ذكر أبي العلاء في كتب التراجم والرجال، ووقفنا بك على أراء القوم فيه وغلبة سوء الظن في شأنه حتى تلخص لك القول في إكفاره وزندقته أو الوقوف به على الحيرة والارتباك في الاعتقاد، فإن لم تطالعه بعدُ فابدأ به ثم عُد إلى هذا حتى تتم الفائدة.

 

ما خبرُ هذا الرجل "شاعر أعمى ظريف يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الجد والهزل" كما قال عنه الثعالبي وكيف تحولت حاله إلى الاحتباس في داره وذم الدنيا وأهلها والتخفف من زينتها وبهارجها والانشغال بتسبيح الله وتمجيده ولزوم الصوم؟ لقد نظرت في كثيرٍ مما كُتب عن الشيخ ورغبت في الاستقصاء ولم أجد عند أحد -خاصة- المتقدمين من اشتغل بهذا السؤال وجوابه؟ ما الذي حصل لذلك الشاب المتطلع للمعرفة والمزاحم للطلاب في حِلَق العلم والمساجد والظريف الذي يدخل في كل فنون الهزل والجد؟! كيف انطفأت في نفسه تلك المعاني وازدحم صدره بمعاني اليأس من هذه الدنيا وهذا الناس ولم يبلغ بعدُ أشده ولم يبلغ أربعين سنة؟

 

إن مفتاح هذا التحوّل الغريب في مدينة السلام -التي ضاعت مفاتيحها، أوّاه يا بغداد!-، فلنقصد بغداد ولننظر في خبر زيارة الشيخ لها، وأسباب زيارته وخروجه منها، فكل من ترجم له يذكر خروجه من بغداد ويعقبه بذكر ارتهانه في محبسه ولزوم بيته، وقد كتب رسالة إلى أهل معرة النعمان ورسالة أخرى إلى خاله يحدثه ويشرح فيها بعض ما حصل له في بغداد وخروجه منها واختياره للعودة لوطنه والتخفف من الناس وزياراتهم. ولكنه كان في ذلك كله يمجمج بالكلام ولا يصرّح، ولا يطلعنا على حقيقة الأمر وهذا الانقلاب في حياته. فدوننا مجال الاجتهاد وتقليب النصوص في الأذهان لفهم حقيقة ما حدث، ولسنا نثق بكثير مما رواه القومُ ففيه تضاربٌ شديد، ولكن نعتمد على ما يحدث به الشيخ عن نفسه أولًا، ثم رواية من حضره وزاره، ثم نعتمد على ما اتسق مع هذين من الرواية فيخرج لنا من ذلك كله ما نطمئن إلى صوابه. فلستُ أقبل ما رواه القفطي من قوله "ولما دخل العراق قصد إلى أكابرها الإعانة بجاههم على بلوغ أغراضه من كف من تطرق أذاه إليه في أمر وقفه، فلم يجد منهم ذلك"، وأنا أقرأ لأبي العلاء:

 

أنبئكم أني على العهد سالم.. ووجهي لمّا يبتذل بسؤال

وإني تيممت العراق لغير ما.. تيممه غيلانُ عند بلال

 

وفي رسالته لأهل المعرة: "وأحلف ما سافرت أستكثر من النشب ولا أتكثر بملاقاة الرجال" وهو مصدّقُ عندنا فيما يحكيه عن نفسه من غير يمين.

 

ولا ما رواه ابن كثير من أن القوم أخرجوه وطردوه لبيتيه في حد السرقة: "تناقضٌ مالنا إلا السكوت له" ونحن نقرأ في رسائله أنه فارق بغداد وأهلها راغبون فيه وفي بقاءه. كل ذلك من الرواية التي لا اعتماد لنا عليها.

 

أما رحلته فلعلها كانت لعدة أسباب إن لم تجتمع فليس يخلو من بعضها؛ الابتعاد من المد الباطني في الشام القادم من الغرب وكذا للسياحة في مدينة العلم والمعرفة رغبة في جوها الثقافي ومذاكرة العلماء ومجالسة الأدباء والاطلاع على دُور الكتب، لا للطلب على الشيوخ والاستزادة من الرواية، لأننا نقرأ له قوله "ومنذ فارقت العشرين من العمر ما حدثت نفسي باجتداء العلم من عراقي ولا شآمي، وانصرفت وماء وجهي في سقاء غير سرب، لم أرق منه قطرة في طلب أدبٍ ولا مال"

 

مهناك حوادث ومهانات شنيعة لا يمكن أن تمرّ على رجل شريف ذو نسب كبير النفس من دون أن تترك في نفسه ندوبًا وأثرًا
مهناك حوادث ومهانات شنيعة لا يمكن أن تمرّ على رجل شريف ذو نسب كبير النفس من دون أن تترك في نفسه ندوبًا وأثرًا
  

لقد لقيَ الشيخُ في بغداد أمورًا زهدته فيها وفي الناس وحنّ فيها إلى وطنه وشهد نوعًا من الجفاء والصلف، والغريب في غير أرضه تعروه رقةٌ وضعف وإن كان قُدَّ من الحجر، فكيف بأبي العلاء وله قلبٌ أرق من نسيم الفجر وروح شفيفة يؤذيها أيسر وارد، ويعلق فيها الأذى فيطبعها فترى العالم من خلاله، وهذا بيّن في سيرته وشعره وتشاؤمه لغلبة تلك الروح عليه.

 

ونذكر لك من أخباره ما طبع نفسه وأثّر فيها ورغّبه في مفارقة بغداد، منها دخوله على الشريف المرتضى وعثوره برجل، فقال له الرجل: من هذا الكلب! فقال أبو العلاء: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا! فهذا سفيه يتطاول على شيخ المعرةِ في مجلس وجهاء بغداد وأبوالعلاء في وطنه شيء عظيم ومهيب ومحترم، ثم يصير غريبًا يتجهّمه أمثال هذا ولا ينتصر له أحد، والغريب تكسره الكلمة.

 

ونبقى في مجلس الشريف المرتضى وقد كان أبو العلاء يحضر مجلسه، فدار بينهما حديث في شأن أحد العظماء في عيني أبي العلاء هو أبو الطيب المتنبي، فنال منه الشريف وانتقصه، وكان مبغضًا له، فقال أبو العلاء لولم يكن لأبي الطيب إلا قصيدته لك يامنازل في القلوب منازل لكفاه. فقال الشريف جروا برجل الكلب! فأخرج ورُمي كما يُرمى المتاع.  فهذا أديب وشريف ووجيه من الوجهاء يفعل بضيفه هذا الفعل.

 

خرج المعري من بغداد وقد نفضَ كثيرًا من معاني الحياة عن قلبه بما عاشه من تجربةٍ في المدينة الأولى للثقافة، وأول تلك المعاني الرغبة في الناس ولقائهم، فقد عالج من ضيافة البغداديين عنتُا وأذى كثيرًا

ويأتي لعلي بن عيسى الربعي وكان أنحى أهل بغداد على شراسة أخلاق فيه، فيستأذن عليه أبو العلاء فيسمعه يقول: ليصعد الأسطبل (يعني الأعمى بلهجة أهل الشام) فيأنف من هذه المناداة وينصرف من فوره. فهذه حوادث ومهانات شنيعة لا يمكن أن تمرّ على رجل شريف ذو نسب كبير النفس من دون أن تترك في نفسه ندوبًا وأثرًا.

 

أما دُور الكتب فيبدو أن الرجل لسعة اطلاعه لم تكن على قدر آماله، فيحدثنا القفطي أنه جاء دار الكتب التي يقوم عليها عبدالسلام بن الحسين فما وجد فيها شيئًا يستغربه أو جديدًا يهش له لم يقف عليه في مكتبات الشام، إلا ديوان جده تيم اللات فاستعاره منها. وما بقاء الشيخ في دار يهان فيها ولا يجد فيها غلة لنهمته المعرفية فآثر الانصراف إلى وطنه، والعودة إلى دياره، ووفاه عند ذلك كتابٌ يخبره باعتلال والدته أقرب الناس إليه وأحناهم عليه فسار إليها. وفي شعره إشارة إلا أن منصرفه عن بغداد كان لمرض أمه وقلة ماله. وهذا اعتذار الغريب متأدبًا، لأننا نجد في شعره لاحقًا يذم بغداد ويعيبها. وإذن فقد انصرف أبو العلاء عن بغداد وكانت لندن زمانه، وقد قال أحدهم في لندن زماننا، إذا مللت الحياة في لندن، فقد مللت الحياة، لأنه لا يمكن للحياة أن تعرض لك شيئًا لست تجده في لندن. فعاد الشيخ وقد ملّ الحياة.

 

خرج المعري وقد نفضَ كثيرًا من معاني الحياة عن قلبه بما عاشه من تجربةٍ في المدينة الأولى للثقافة في العالم الإسلامي، وأول تلك المعاني الرغبة في الناس ولقائهم، فقد عالج من ضيافة البغداديين عنتُا وأذى كثيرًا، وأسرع الطفل في الشيخ إلى الحضن الذي طالما لجأ إليه واحتمى من صلافة الناس وجفائهم، فدخل المعرة وقد فارقت أمه الحياة وغاب ملاذه الأخير، فدخل بيته وأغلق الباب وراءه فصار رهين المحبسين.

 

فهذا خبر التحول في حياته كما فهمناه وانتهى إليه بحثنا، تراكم صدمات عاطفية ورحيله إلى بلد حرمته وداع أمه ولم تشفِ نهمته ولا احتفت به حق الاحتفاء وهو فريد زمانه ووحيد عصره، وفي شعره في السقط ما يبيّن لك كيف كان يرى أبو العلاء نفسه، وتلك الروح التي دخل بها بغداد وخرج بغيرها، فدونك لاميته "ألا في سبيل المجد" وداليته "أرى العنقاء تكبر أن تصادا".

 

ونأتي الآن لنقض الشبهات التي دارت حول عقيدته وما رماه به حساده ومبغضوه لنقف على تهافته وفساده فليس يسير على نسق ولا يقوم به دليل.

 

يقول الشيخ
يقول الشيخ "علم ربنا ما علم، أني الفت الكلم، آمل رضاه المسلم، واتقي سخطه المؤلم، فهب لي ما أبلغ به رضاك من الكلم والمعاني الغراب". فأعجب من ملحد مارق (زعموا) يطلب من ربه العون والتوفيق في مستهل معارضته لكتابه الكريم!

 

اعلم سلك الله بك سبيل الرشاد أن عصر أبي العلاء كان عصر غلبة لمذهب الباطنية وانتشار التقليد، وفي مذهب الباطنية انحراف عن العقل ومجافاة للنقد والتعويل كل التعويل على علم الباطن وما يقوله الإمام، وإن شئت أن تستزيد فانظر فيما يذكره ابن الأثير عن عصر أبي العلاء في تاريخه 363-449 ونقل طرفًا منه مارون عبود في زوبعة العصور، ولكن شيخ الموارنة أراد أن يجتهد ويحل لغز أبي العلاء فجاء شططًا، وقال بفاطميته، وهذا القول يشبه التبولة بالسكّر، صنف جديد ولكنه عن التجريب فاسد. وعلى كل حال فلا سبيل لفهم أبي العلاء مع إغفال عصره وغلبة مذهب الباطنية على الحياة السياسية ، ففي استحضار ذلك الجو كشف لدعوته إلى العقل وإعلاءه من شأنه ونبذه للتقليد ومحاربته له، فإن اتضح لك هذا المعنى فاستحضره في قراءتك للشيخ فأنا أناولك المصباح ولا أسير معك كل السير.

 

وقد استعرضت لك تراجم القوم فوجدت تهمهم تدور على ثلاثة أمور: معارضته للقرآن ومذهبه في لحم الحيوان وما زعموه من ضلالاته في شعره، وهذا أوان نقضه بعون الله.

 

لو شئت أن أستكثر لقصصت عليك ما رواه السِلَفي عن القاضي أبي الفتح من قصة تحتوي على غرض تعظيم الشيخ لكتاب الله وكلامه، ولكن من شرطنا أن نكتفي بكلام الشيخ أو من حضره من غير شبهة تكذّب أو زيادة

وأول ما نبدأ به دعوى معارضته للقرآن في كتابه الفصول والغايات، وقد عبث به بعنوانه بعض الحاسدون فأضافوا في العنوان "ومحاذات السور والآيات" وهذا كذب وبهتان خالص، فليس في ثبت كتب الشيخ هذه الزيادة وإنما هو الفصول والغايات فحسب، وقد ورد في بعض المواضع زيادة في تمجيدة الله والمواعظ، وهي زيادة من محب ينفي بها زيادة من حاسد. هذا عنوانه وأما محتواه فهو كتاب بين بيد الناس، وحسبك من دعوى تبطل بفتح الكتاب ومطالعته، فالشيخ ينص أنه أراد به تمجيد الله عز وجل ونشر المواعظ فيه والأخبار وجعله مرتبًا على حروف المعجم وهو نمط جديد في التأليف لم يُسبق إليه. وتجده يستعين الله في بدء كتابه ويدعوه فيقول: "علم ربنا ما علم، أني الفت الكلم، آمل رضاه المسلم، واتقي سخطه المؤلم، فهب لي ما أبلغ به رضاك من الكلم والمعاني الغراب" فأعجب من ملحد مارق (زعموا) يطلب من ربه العون والتوفيق في مستهل معارضته لكتابه الكريم!

 

وإن شئت معرفة رأي الشيخ في إعجاز القرآن فدونك ما دوّنه في رسالة الغفران حيث يقول "وأجمع ملحد ومهتد، وناكب عن المحجة ومقتد، أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كتاب بهر بالإعجاز، ولَقِيَ عدوَّه بالإرجاز، ما حُذِيَ على مثال، ولا أشبه غريب الأمثال، ما هو من القصيد الموزون، ولا الرجز من سهل وحزون، ولا شاكل خطابة العرب، ولا سجع الكهنة ذوي الأرب، وجاء كالشمس اللائحة، نورا لِلمُسِرَّة والبائحة، لو فهمه الهضب الراكد لتصدع، أو الوعول المُعْصِمَة لَرَاقَ الفادرة والصَّدَع: "وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون" فهل يبقى بعد هذا مكانٌ لهذه الفرية الصلعاء؟! معاذ لله. ولو شئت أن أستكثر لقصصت عليك ما رواه السِلَفي عن القاضي أبي الفتح من قصة تحتوي على غرض تعظيم الشيخ لكتاب الله وكلامه، ولكن من شرطنا أن نكتفي بكلام الشيخ أو من حضره من غير شبهة تكذّب أو زيادة. وفي رواية أبي الفتح شبهة صناعة.

 

ثم تعال لننظر في مذهبه في الحيوان وأكل لحمه فقد اضطرب فيه القوم وحاروا حيرةً شديدة، فقد وجدناهم يقولون إنه تركه زهدًا ورحمة ابتداءً، ثم صار هذا الترك والزهد "تحريمًا" عند بعضهم ممن لم ينصف الشيخ، وتلى ذلك "التحريم" محاولة لنسبة الشيخ إلى التبرهم والمجوسية ثم إلى مذهب الفلاسفة والحكماء، فمتى ساء ظن قومٍ برجل اتسع المجال في تأويل أفعاله وحمل الفعل الحسن على القبح وقلب المدائح إلى مذام والله المستعان. وقد نقل ياقوت مراسلات مهمة بين الشيخ وبين أبي النصر هبة الله بن موسى في شأن امتناعه عن أكل اللحم، وكان بيان الشيخ جليًا في أنه يقرر إباحته وإنما هو يتركه زهدًا وتقربًا إلى الله، وهل الزهد إلا في المباح؟! ولكن ما أسرع سيء الظن في عرض خصمه. ولو شئنا أن نحدثك عن علة امتناع المجوس أكل اللحوم وسر ذلك في مذهبهم ثم عطفنا بذكر كلامٍ لأبي العلاء في أمور متصلة به كشأن تناسخ الأرواح وتندره بها، أو مباينة أبي العلاء لطرائق الفلاسفة وما قاله في أشعاره من ذم الطريقتين لطال الأمر، ولكن عهدي إليك في هذين المقالين عن الشيخ ألا أمدّ لك من ذكره مائدةً وإنما أصنع لك ساندويتشًا.

 

وقد أحسن ابن الوردي في التقاطة معنى لطيف حين ساق مراثي الشيخ فقال: "رثاه تلميذه أبو الحسن علي بن همام بقوله:

إن كنت لم تُرِق الدماء زهادةً.. فلقد أرقت اليوم من جفني دما

 

قلتُ: وقول تلميذه لم ترق الدماء زهادة يدفع قول من قال إنه لم يرقها فلسفةً. ونسبه إلى رأي الحكماء وتلميذه أعرف به ممن هو غريب يرجمه بالغيب." فهاتان شبهتان ثبت لنا فسادها من كلام الشيخ ومن سيرته وأنها من مقالة الحاسدين أو من غلّب سوء الظن ولم يتحر الانصاف.

 

قال أبو اليسر المعري:
قال أبو اليسر المعري: "وكان رضي الله عنه يُرمى من أهل الحسد بالتعطيل وتعمل تلاميذه وغيرهم على لسانه الأشعار يضمنونها أقاويل الملحدة، قصدًا لهلاكه، وإيثارًا لإتلاف نفسه"
  

ثم نأتي لشعره وفيه مجالٌ واسعٌ لإساءة الظن والرجم بالغيب والكذب عليه والوضع على لسانه، ونحن نعرض عليك ما يعينك على السير فيه سيرًا مقتصدًا من دون أن تستخفك الألفاظ وتغيب عنك مراميها. فاعلم هُديت لحسن الفهم أن شعر الشيخ الموهم على ثلاثة ضروب: ضربٌ منحول لم يقله الشيخ ولا تحركت به شفتاه، وضربٌ تم تحويره وإساءة فهمه، وضربٌ محتمل التأويل ولا يوجب تهمةً في حقه. وفيما يلي بيانها.

 

أما المنحول فهو كثير وأكثره كفرٌ صراح، فيه تطاول على الذات العليّة وجحود للرسالات، وإنكار لليوم الآخر ولا وجود له في ديوانيه وإنما هو من عمل الحسّاد والمبطنين سوءًا للشيخ. قال أبو اليسر المعري: "وكان رضي الله عنه يُرمى من أهل الحسد بالتعطيل وتعمل تلاميذه وغيرهم على لسانه الأشعار يضمنونها أقاويل الملحدة، قصدًا لهلاكه، وإيثارًا لإتلاف نفسه".

 

ومن كلام الشيخ في التراجم كما عند الذهبي وغيره أنه سئل عن بعض ما يُرمى به فقال "حسدوني وكذبوا عليّ".

 

ومن هذا الشعر المنحول:

قولهم:

فلا تحسب مقال الرسل حقًا.. ولكن قول زورٍ سطّروه

وكان الناس في عيش رغيدٍ.. فجاءوا بالمحال فكدروه

 

وقولهم:

كونٌ يُرى وفسادٌ جاء يتبعه.. تبارك الله ما في خلقه عبثُ

وإن يؤذن بلالُ لابن آمنةٍ.. فبعده لسجاحٍ ما دعا شَبَثً

 

وقولهم:

صرف الزمان مفرّق الإلفين.. فاحكم إلهي بين ذاك وبيني

أنهيت عن قتل النفوس تعمدًا.. وبعثت أنت لأهلها ملكين

وزعمت أن لها معادًا ثانيًا.. ما كان أغناها عن الحالين

 

وغيرها من الأبيات التي فيها من الاستخفاف بالذات الإلهية والرسالات من صريح القول الذي لا يحتمل التأويل. وقد وقفنا على سلوك غريب عند أكثر مترجميه ممن وقعوا فيه بالتهم الباطله وهي تقديمهم للشعر المنحول في استدلالهم على سوء اعتقاده وافتتاحهم به، تجد ذلك عند ابن الجوزي وعند غرس النعمة وعنهما نقل أكثر المترجمين، فأنت إذا ابتدأت بأبيات الكفر الصريح لم تلبث أن تحمل كل بيت يحتمل معنيين حسنَا وآخر قبيحًا على المعنى القبيح والقادح في اعتقاد أبي العلاء. ولست أزعم أن القوم فعلوه على تعمدٍ منهم وخبث قصد -حاشاهم- ولكنهم لما لم يقفوا على جميع أحوال الرجل ولم يتحروا الإنصاف فيه ساقوا كلّ ما يدلل على سوء اعتقادهم فيه فتقدّمت الأبيات المنحولة اتفاقًا لما فيها من أقوالٍ رهيبة تنفر منها قلوب المؤمنين وتسوق سائر الأبيات التي تليها إلى معان فاسدة. 

وثمّة أبيات حوّرت وقرأت بسوء قصدٍ ثم صارت دليلاُ يستدل بها القادح على مذهبه، ومن ذلك قول أبي العلاء:

 

أمورٌ تستخف بها عقولٌ.. وما يدري الفتى لمن الثبورُ؟

كتابُ محمد وكتاب موسى.. وإنجيل بن مريم والزبورُ

 

وإيراد البيتين على هاته الطريقة فيه تحوير وإخلال لقصد أبي العلاء، فيقع المعنى في نفس القارئ أن الكتب التي اشتمل عليها البيت الثاني هي المقصودة "بالأمور التي تستخف بها العقول" في البيت الأول. ولكن الأمر ليس كذلك. فقد عثر أمجد الطرابلسي على قطع من كتاب زجر النابح الذي يدافع فيه أبو العلاء عن نفسه، وقد وقف عليه بعض المتقدمين كابن العديم، فأخرج لنا أمجد تلك المقاطع التي يبلغ عددها بضعها وثمانين قطعة، في كل قطعة يرد أبو العلاء على بعض خصومه التهم التي قيلت فيه، ومنها ما ذكره عن هذين البيتين وأنهما ليسا على الوصل، وإنما القطع بين الأول والثاني، ووصل الثاني بالثالث، فتكون صورته على ما يلي:

 

أمورٌ تستخف بها عقولٌ.. وما يدري الفتى لمن الثبورُ؟

 

كتابُ محمد وكتاب موسى.. وإنجيل بن مريم والزبورُ

نَهَت أممًا فما قبلت وبارت..  نصيحتها، فكل القوم بورُ

 

فبيت المطلع بيت منفصل لا علاقة له بما بعده، ثم يتصل البيت الثاني بالثالث بما بعدها، وفي هذا رفع للإشكال، وفهم للأبيات على قصد قائلها.

ومثله البيتان المشهوران:

تناقضٌ مالنا إلا السكوت له.. وأن نعوذ بمولانا من النار

يدٌ بخمس مئين عسجدٍ فُديت.. ما بالها قُطعت في ربع دينار

 

فساق القوم هذا البيت على أنه اعتراضٌ على حد السرقة والتشريع الإلهي، حتى قال ياقوت معلقًا عليه: كان المعري حمارًا لا يفق شيئًا! والأمر أهون من هذا، وقد تقدم معنا ما ذكره الذهبي من أن المعري إنما أراد به صياغة كلام الفقهاء عن العلل التعبديّة التي لا مُدخلية للعقل فيها، فيستحيل على العقل إدراك حكمتها، ولسنا نناقش أبا العلاء في قصده هنا وقد صرّح بقصده من البيتين في ما رواه الذهبي وفي كتابه زجر النابح، وإن كنا نناقشه في تمثيله بحد السرقة على العلة التعبدية فعلتها مُدركة لدى كثير. وعلى كل حال فقصد الرجل لم ينصرف إلى الاعتراض والهزء من الشريعة، كيف وهو يستعيذ بالله من النار، ويقضي أنه ليس لنا في هذا المقام مقالٌ لأنه شرع إلهي.

 

وأما الضرب الأخير مما يهولك لفظه فكثير في شعره وهو يحتمل التأويل ويُنظر فيه إلى واقعه ومقاومته لهيمنة التقليد وغلبته على العقل، وفي اللزوميات من الإشارات الخفية وشبه الخفيّة إلى انحراف الديانات لغلبة التقليد عليها وسيادة الكهنوت، ولو ينشط دارسٌ للأديان وفلسفتها في استخلاص مذهب الشيخ في قراءة الأديان وتاريخها لخرج ببحث في غاية الطرافة. ومن شعره هذا قوله الذي يلاقيه الكثير بالاستبشاع:

 

هفت الحنيفةُ والنصارى ما اهتدت.. ويهود حارت والمجوسُ مضلله

اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا.. دينٍ وآخر ديّنٌ لا عقل له

 

ومتى حملته على ما قاساه الشيخ في عصره من ظهور الباطنية المنتسبة إلى الدين، لأخذك الطرب للبيت أخذًا شديدًا وهو يصوّر لك حالًا بائسة لما انتهت إليه دعوة الفاطميين في العالم الإسلامي، فصار المتدين على مذهبهم لا عقل له، إذ العبرة بما يقوله الإمام، وصار من يريد أن يحفظ على نفسه عقله ينبذ الدين وراء ظهر حين تشكّل له في تلك الصورة القاتمة. فاستصحب هذا المعنى يتضح لك أمثال هذه:

 

سأتبع من يدعو إلى الخير جاهدًا.. وأرحل عنها ما إمامي سوى عقلي

 

وقوله:

وينفر عقلي مغضبا إن تركته.. سدى واتبعت الشافعي ومالكا

 

لقد سار أبو العلاء سيرةُ حميدة، وإن كان يغلب عليه التشاؤم ولكنه ما مرق من الإسلام، ولا تخفف من شرائعه، كيف وهو الذي يصوم الدهر عدا العيدين فبأي شريعة سار غير شريعة أبي القاسم؟، ويديم صلاته المكتوبة عليه، ويتوفر على التسبيح والتمجيد لرب العالمين سائر وقته، ويؤمن بالمعاد والحساب، وكل ذلك في شعره لا يخفى إلا على متعامٍ لا يحب ذلك الأعمى. ومتى تأمل الباحث حجة ابن العديم في أن الذين وقعوا في الشيخ لم يعايشوه ولا خالطوه، وأن من قاربه وعاش معه شهد له بحسن الديانة وحميد السيرة وجد في ذلك استدلالا بديعًا، فقد كتب عنه الثقات ودرسوا عليه ونهلوا من علمه ولم يثلبوه بمثلبة، وهذه كُتب أبي العلاء وأشعاره بين أيدينا ما كان يكتبها إلا القضاة من أبناء أخيه وذوو الديانة من أهل المعرة. فمتى وجدت في تاريخ الإسلام قضاة المسلمين يكتبون أمالي الملاحدة والزنادقة ورِقاقِ الدين؟!

  

رحم الله أبا العلاء وجمعنا به في عليين، وجعل دفاعنا عنه ذباً عن عرض مسلم وعملًا صالحًا ننتفع به يوم المعاد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.