شعار قسم مدونات

لقد فاتني أن أكون ملاكا

Blogs-mohamed shokri

"أخي صار ملاكا. وأنا سأكون شيطاناً، هذا لا ريب فيه. الصغار إذا ماتوا يصيرون ملائكة والكبار شياطين. لقد فاتني أن أكون ملاكا".  كلمات كهذه لن تخرج إلا من في امرئ عاش الصعاب وكابد المنغصات، ثم انتهى إلى حياة بئيسة امتنع عليه فيها التغلب على أهواء النفس والتخلي عن عادات استفحلت وصارت قناعات لا يسهل تجاوزها. لأن طبيعة الحياة المعاشة تتحكم في صبغة المستقبل الذي يؤول إليه الإنسان.

            

من عاش حياة رغيدة هنية لا بد وأن تكون عنده في آخر حياته قناعات تنسجم وما عاش عليه وتطمئن إليها نفسه. ومن عاش حياة الحرمان والتشرد فإنه لا بد مقتنع بقناعات معادية لمجتمعه، تطفح غالبيتها بردود أفعال قاسية، دافعها السخط من المجتمع بأطيافه. لكن لا بد من فترات يقف فيها المرأ مع حاله ويصف نفسه بما هو أنسب له، ولو كان وصفا جائراً مبالغاً فيه كأن يصف الإنسان نفسه بأنه شيطان بصيغة ملؤها الحسرة والندم والشعور بخيبة الأمل. لعل الكلام المصدر به المقال غير واضح الدلالة ولا بين المعنى، ولكن إذا علم أن قائله رجل بئيس عاش حياة حالكة، متشرداً بين أزقة طنجة ودروبها بعدما كتب عليه الشقاء ولفظه الريف بسبب المجاعة والجفاف، فعاش على "الخبز الحافي" قبل أن تبتسم له الحياة ليودعها كما لقيها، فإنه سيتضح لا محالة.

         

محمد شكري أو شحرور الوادي كما كان يحب أن ينادى، الذي أثارت سيرته جدالات متباينة في حياته وبعد موته، لأنها تعج بالجرأة الزائدة التي تنافي الأخلاق والمبادئ الإسلامية، وهو السبب الذي منعت له من الصدور بادئ الأمر بلغتها الأصلية، غير أن ترجمتها إلى الإنجليزية والفرنسية رفع عنها الحجب فانتشرت في الأسواق مخلدة اسم شكري في سماء الرواد كما وصفوا. تباينت ردود الأفعال تجاه الخبز الحافي، فحظيت بالترحيب من طرف نقاد كثيرين اعتبروها انفجار هائلا في ساحة الإبداع. وقوبلت بالرفض من قبل آخرين عدوها عملاً خليعاً مشيناً بالأخلاق، يساهم في إثارة الغرائز وتأجيج الشهوات لا عملاً إبداعياً يستحق التنويه.

                      

كل واحد منا يمر بتفاصيل مختلفة، ربما لا نحسها ولكن كل منا يردد في نفسه
كل واحد منا يمر بتفاصيل مختلفة، ربما لا نحسها ولكن كل منا يردد في نفسه " لقد فاتني أن أكون ملاكا"

         

حاول البعض ركوب موجة شكري وارتداء معطفه ابتغاء الشهرة، لكنهم لم يحفلوا بشيء مما حفل به شكري، رغم أنهم حاكوا أسلوبه وأسرفوا في شحن رواياتهم بالخلاعة والإباحية المفرطة ظانين أن أعمالا كهذه كفيلة بإيصالهم إلى قمة النجاح والشهرة التي إليها يطمحون ضاربين بمشاعر الناشئة عرض الحائط. بيد أن الذي لا ينبغي تفويته هو أن شكري ساق سيرته بكل تفاصيلها المثيرة ولم يطعمها بالهيال أو يجردها من الخلاعة والإباحية، ولو جردها من ذلك لكانت عملا متخيلا لا سيرة ذاتية. لأن حياته من ألفها إلى يائها نسجت تفاصيلها بين جدران الضياع والتشرد وتحت أسقف الحانات والخمارات، ولهذا غفر بعض النقاد لشكري ما لم يغفروه لغيره، وإن كانت الإباحية ملة واحدة.

         

هناك حقيقة لا ينبغي التغاضي عنها وهي أن من بين قراء سيرة شكري وما شاكلها، مراهقون يدفعهم الفضول والغريزة للاطلاع على أعمال كهذه، وهذا مما يحتم ضرورة ترشيد القراءة وتحديد ما ينبغي البدأ بقراءته بالنسبة للناشئين، وهي مسؤولية دور الثقافة ومؤسسات التعليم. لأنه كما قال أحد الروائيين الفرنسيين في رواية له على لسان أحد الأبطال " ليس هناك كتب تحرم قراءتها وإنما هناك أوقات تحرم القراءة فيها." لعل تجربة شكري هذه تتكرر مع كل واحد منا بتفاصيل مختلفة، ربما لا نحسها ولكن كل منا يردد في نفسه " لقد فاتني أن أكون ملاكا".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.