شعار قسم مدونات

بين القلق والنرجسية.. دوستويفسكي والمُثل الرقمية

مدونات - كمبيوتر
لا أصدق أن يتكلم الأديب الروسي "فيودور دوستويفسكي" عن حالة القلق الاجتماعية والنرجسية الحاصلة اليوم، والتي أصابت شرائح نخبوية كثيرة في مجتمعنا وخصوصاً على منصات التواصل الاجتماعي، ممثلاً تلك الحالة قبل قرنٍ ونيفٍ من الزمن في روايته "المُثلِ" والتي كان بطلُها الشخصية المتطفلة والنرجسية "جوليادكين".
في تقريرٍ رائعٍ للمدونة والمترجمة السورية أراكة عبدالعزيز على موقع (ميدان)، يتكلم التقرير بشكلٍ رائع عن ما قاله "دوستويفسكي" في تلك التحفة الأدبية الفلسفية والنّفسية، التي شرحت حالة الصراع بين الذات ومثيلَتها الافتراضية بطريقة تشريحية دقيقة، تلك الذات الافتراضية التي تضحك بينما تنام ذواتُنا وهي تشعر بالوحدة والقلق والاغتراب والحاجة إلى العُزلة عن الآخرين. يتساءل التقرير لماذا يشعرُ أحدُنا بكل ذلك العناء بينما يُحيطُه الآلاف من الأصدقاء؟ بطريقة دوستويفسكية قارن التقرير بين حالة الصراع التي عاشها بطل الرواية جوليادكين مع "مُثلِه" في شوارع سانت بطرسبورغ، وبين ما يعيشها رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع "مُثلِهم الرقمية".

بشكلٍ حصريٍ استند بطلُ الرواية "جوليادكين" في منح القيمة الذاتية لنفسه على مبدأ نرجسي خالص، الجميع ينظرإلى هيئته المهيبة التي تشقُ الصفوف، يراها ترتسم على حدقات أعين الناظرين إليه، الآذان تُلقي السمع بشيء من الترقب والإنصات المُذعن، تقول له "مُثله" انظرهناك في أعلى الساحة، مجموعة من النّسوة يهمسنّ فيما بينهنّ ويغمزن نحوك، ثم تُسهب في الكلام قائلة لا تنظر إلى الأسفل، ارفع رأسك عالياً، لا تجعل بصرك يلتقي مع نظر أحدهم، فحينما يغيبُ نظرك عن الحاضرين، تُصوب نحوك الأنظار مُشرئبة تواقة مادحة. فالهدف الذي كان يسعى من أجله جوليادكين هو أن يُصبح له جمهورٌ كبير، كان يشعرُ باللذة وهو يعيش دور البطل، مسرحية طويلة يتمنى ألا تنتهي.

تخيل أنك أنت من صنعت تلك الذات الرقمية، أنت من عمِل لها تاريخ ميلاد وصورة شخصية واهتمامات خاصة، حالات تتغير بين الحينة والأخرى، أنت أيضا من جعلها تحتفل مع الآخرين وتضحك

كذلك هو الحال مع الملايين من مستخدمي العالم الافتراضي اليوم، حالة صراع دائمٍ بينهم وبين "مُثلِهم الرقمية" فعند جوليادكين كان همس النّسوة وأعين الناظرين هو معيار ارتفاع القيمة الذاتية لديه، بينما في العوالم الافتراضية اليوم لم تعُدِ الحياة بواقعية هي من يصنع ذلك، بل باتت كمية الإعجابات والمشاركات والمشاهدات هي من ترفع منسوب قيمة الذات، وتجعلها شخصية مرموقة ذات أهمية بين الآخرين.

ما نتيجة أن يظل جُلّ همّ كثيرين كيف لهم أن يستهووا أعين النّاس نحو ما يصنعونه؟ كم عدد التعليقات؟ كم نسبة المشاهدات؟ كم عدد اللايكات وإعادة المشاركة؟ ما هو شعور أحدهم حينما يكون لديه منشور أو مقطع فيديو لم يُعجب به أحد؟

ستجد كثيرين يحذفون منشوراتهم التي لا تحصد كثيرا من الإعجابات والمشاركات، بل تجد أحدهم يتمنى لو أنه يحذف كل ما قد نشره في صفحته من قبل، غير أن ما يمنعه من ذلك هو التساؤلات التي سوف ترتسم لدى الآخرين جراء حذفه لكل ما نشره سابقاً.

في الحقيقة أن الصفحات الشخصية لكثير من رواد مواقع التواصل الاجتماعية، هي النّقيض تماماً عما نراه في واقعهم، والقليل هم من يعيشون بواقعية وتوافق بين ذواتِهم و مُثلِها الرقمية، بل إنه من المؤسف أن تحصل ذاتك الرقمية في العالم الافتراضي على صديق جديد كل يوم، بينما واقعك الاجتماعي يتكلم عن فشلك الذريع وخسارتك المستمرة في علاقاتك مع الآخرين.

هل أكون منصفا إن قلت أن المُثلِ الرقمية في العالم الافتراضي لذواتنا هي الحالة التي نتمنى أن نكون بها ونظهر بها في حياتنا وعالمنا الواقعي، غير أن الفرق بين العالمَين، أن الأول نستطيع التعديل والتحسين وإعادة تركيب الذات وفق ما نريد، على عكس العالم الواقعي الذي لا نستطيع إلا أن نكون كما نحن.

تخيل أنك أنت من صنعت تلك الذات الرقمية، أنت من عمِل لها تاريخ ميلاد وصورة شخصية واهتمامات خاصة، حالات تتغير بين الحينة والأخرى، أنت أيضا من جعلها تحتفل مع الآخرين وتضحك وتتبادل النّقاش وتربط الصداقات والعلاقات، أنت من جعلها شخصية ناقدة مفكرة ملهمة، بينما أنك في الحقيقية لم تعش شيئا من كل ذلك، ينتهي بك اليوم منزوياً وحيداً تبحث عمن يُجالسك ويواسيك، في اللحظة التي تجوب مُثلِك الرقمية كلّ أنحاء العالم، تكسب الصداقات وتُعجب الأصدقاء وتجذب الغرباء نحوها.

لعمري أن مجنوناً يعيش في أركان الشوارع وأزقة البيوت يعيش حالة انسِجامٍ مع مُثلِه، خيراً من أولئك الذين يعيشون حالة انفصامٍ عن ذواتهم وواقعهم الحقيقي، تجرّهم المُثلِ والذواتِ المتعددة تراهم يهيمون كل يومٍ بواد.

وكما تقول المدونة "أراكة عبدالعزيز" أن تعيش عارياً تحت هالة من الضوء تسلّطُها عليك تصوراتك غير السوية، إنما سيبعثُ فيك المزيد من الألم ويمنح الاضطراب كل القوة كي يستشري فيك أكثر فأكثر

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.