شعار قسم مدونات

الموت القادم للصحافة

blogs الصحافة

هلل كثيرون لوسائل التواصل الاجتماعي، واعتبروها فتحا عظيما في مجال الاتصال والتواصل.. وهذا صحيح من حيث أنها وسائل غير مسبوقة في تجاوز القيود حول حرية التعبير، إذ فتحت مجالات عصية على التحكم والمراقبة إلى حد ما، وبات بإمكان الجميع الكتابة والتعبير عن رأيه وفتح نقاشات وربط علاقات عابرة للمكان والزمان.

 

لكن هذه الوسائل وخاصة الفيسبوك والتويتر والواتساب لم تبق مجرد وسائل تواصل اجتماعي وتعارف، وباتت منابر سياسية وتعبوية (من التعبئة)، وتحديدا قبيل اندلاع ما اصطلح عليه بثورات الربيع قبل أن تحوله الثورة المضادة إلى خريف مرعب كما حصل في سوريا وليبيا ومصر واليمن.

 

سطوة تأثير هذه الوسائل في شريحة الشباب وتطور الهواتف الذكية حولها لوسيلة إعلامية، إذ بات كل من يملك هاتفا ذكيا "صحفيا" يلتقط صورة واقعة وحدث معين ويكتب عنه بضع كلمات، ويرمي بها في بحر الشبكة الاجتماعية، بل باتت مصدرا للأخبار لكثير من المواقع الإلكترونية.

 

كما قتلت وسائل التواصل الاجتماعي العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة الواحدة والعائلة والحي والمجتمع، فإنها في طريقها لقتل الصحافة الجادة من حيث غياب الحاسة النقدية وعدم التحقق من الأخبار
كما قتلت وسائل التواصل الاجتماعي العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة الواحدة والعائلة والحي والمجتمع، فإنها في طريقها لقتل الصحافة الجادة من حيث غياب الحاسة النقدية وعدم التحقق من الأخبار
 

ومع توالي الأيام بات لهذه الوسائل الجديدة تأثير على وسائل الإعلام التقليدية، من حيث دفعها للاختصار وتحويل الأخبار لما يشبه وجبات الأكل السريعة؛ التركيز على العناوين وأخبار مختصرة جدا مراعاة لطبيعة قارئ القرن الواحد والعشرين. ولأجل هذا سارعت الفضائيات والمواقع الإلكترونية الإخبارية لفتح صفحات في الفيسبوك وحسابات في التويتر وغيره للوصول إلى أكبر عدد ممكن من القراء والمتابعين والمشاهدين.

 

وكما يؤدي الإدمان على الوجبات السريعة لحالة سمنة وانتفاخ ضارة بالصحة، يؤدي الإدمان على أخبار مواقع التواصل الاجتماعي والمختصرات والصور إلى تسطيح العقول وتنميطها، وتبلد المشاعر والأحاسيس.

 

وباختصار كما قتلت وسائل التواصل الاجتماعي العلاقات الاجتماعية داخل الأسرة الواحدة والعائلة والحي والمجتمع، فإنها في طريقها لقتل الصحافة الجادة من حيث غياب الحاسة النقدية وعدم التحقق من الأخبار، وغياب التعمق في المواضيع والعجز عن القراءة المطولة للمقالات التحليلية والدراسات والأبحاث.

 

وسط عشرات آلاف المواقع الإلكترونية التي تصف نفسها بالإعلامية، تجد المواقع الإلكترونية الصحفية المهنية نفسها وسط عواصف وأعاصير تهدد مصداقية العمل الصحفي والإعلامي، وتهدد وجوده من حيث المهنية والجدية

لقد خلقت تلك الوسائل حالة من الكسل الفكري وخلطت بين الغث والسمين، ومكنت بشكل كبير للأخبار الزائفة والموجهة وساهمت في انتشارها بشكل واسع جدا من خلال تقنيات خاصة وأشكال جاذبة. وقد ساهم هذا النوع من الأخبار في وسائل التواصل الاجتماعي في التمكين لظواهر خطيرة كالإسلاموفوبيا واليمين المتطرف، والتشدد.

 

الواقع اليوم يشير إلى إن شريحة كبيرة ممن مالكي الهواتف الذكية جعلت من وسائل التواصل الاجتماعي مصدرها الرئيسي أو الأساسي لتلقي المعلومات والأخبار، وأن كثيرين ممن لا علاقة لهم بالصحافة والإعلام فتحوا مواقع سموها بالإخبارية وتحولوا بقدرة قادر لـ"صحفيين".. و"إعلاميين".

 

وقبل عشر سنوات كنا نجد في الندوات الصحفية صحفيي الجرائد الورقية ومراسلي وكالات الأنباء، وميكروفونات قنوات فضائية وتلفزيونية. أما اليوم فإن ميكروفونات المواقع الإلكترونية وحدها تعد بالعشرات، لا يعرف الصحفيون أنفسهم جلها.

 

ووسط عشرات آلاف المواقع الإلكترونية التي تصف نفسها بالإعلامية في العالم التي تنشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تجد المواقع الإلكترونية الصحفية المهنية نفسها وسط عواصف وأعاصير لا تهدد فقط مصداقية العمل الصحفي والإعلامي، بل تهدد وجوده أصلا من حيث المهنية والجدية، والموضوعية ووظيفته الحقيقية. وإذا استمرت الوضعية بهذه الوثيرة من دون مقاومة فستصبح الصحافة مجرد ذكرى وأطلال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.