شعار قسم مدونات

ثلاث فرضيات حول الأخلاق (3)

blogs مجتمع

توقفنا في الجزء السابق عند نقطة امتلاك الأخلاق استقلالا جعل من الممكن الكلام عن أخلاقية بعض الأحكام أو التصورات الدينية، الأمر الذي يدل على افتراض مرجعية للأخلاق مستقلة عن الدين، على الأقل كما يتجسد في تاريخ محدد. بمعنى أن استقلال الأخلاق ليس بالضرورة استقلالا عن جوهر الدين وإنما عن التجسُّد التاريخي للدين، وذلك باعتبار أن الدين هو شيء أكثر من التصورات والتعاليم التي تحملها النصوص الدينية، فضلا عن شروح وتفاسير تلك النصوص، كونه أي الدين، هو التجربة التي أنتجت كل ذلك.. تجربة الإنسان في سعيه نحو الحقيقة.

 

إن الفصل بين ما هو جوهري وما هو تاريخي في الدين يسمح بأن يكون النقد الأخلاقي للشق التاريخي من الدين عملية تتم من داخل الدين نفسه وليس من خارجه، والأهم من ذلك هو أن ذلك النقد ليس نقدا للدين في جوهره، وذلك لكون النقد الأخلاقي هو نشاط للروح الإنسانية الحرة ذاتها، والتي تختبر جوهر الدين. فجوهر الدين هو شيء يُختبَر بواسطة الروح التي تمارس التفكير والنقد والتديُّن. بمعنى أننا حينما نتكلم عن "جوهر الدين" فنحن نتكلم عن شيء موجود في وعينا الإنساني، نفس الوعي الذي يمارس النقد.

 

هذا لا يعني بالطبع أن كل نقد أخلاقي للدين هو شكل من أشكال التديُّن أو هو استمرار للدين. وإنما يعني أن هناك أُفق واحد يجمع التديُّن والفلسفة كونهما نشاطان لروح إنسانية واحدة تتوق دائما للترقي نحو الأسمى والأكمل، وإن اختلفت الأدوات وأشكال التعبير. ومع ذلك، فإن التفكير الفلسفي يُمكن أن يحمل خصائص ذات طابع ديني. فالتساؤل والقلق والبحث بنزاهة وتجرُّد عن الحقيقة هي أمور تمنح شعورا ذو طابع ديني، ليس لأن الفلسفة تشبه الدين بل لأن كلاهما يعبران عن روح الإنسان ولكن بطرق مختلفة. وعندما أقول التديُّن فأنا لا أتكلم عن ذلك التقليد الشائع في اتباع التعاليم الدينية، وإنما أعني التجربة الدينية التي تملك نفس أصالة حيوية التفكير النقدي والحر.

 

من المعروف أن مجرد تواضع مجموعة محددة من الناس، مهما كانت كبيرة، حتى لو كانت تشمل الأغلبية الساحقة من البشر، على قيم ومعايير للسلوك الإنساني لا يمنح هذه القيم والمعايير معنى أكبر من كونها شيء اعتباطي

ولنا أن نتساءل بالعودة إلى الموضوع الأساسي، أي الفرضيات الثلاث حول الأخلاق، ما هو شكل العلاقة بين تلك الفرضيات والنقد الأخلاقي للدين؟

 

بالنسبة للفرضية الأولى، أي الأخلاق كشيء مستقل عن الإنسان يجب عليه معرفته، فهي تجعل مشكلة الوصول إلى هذه الأخلاق في نفس مستوى تعقيد مشكلة أصل الدين. ولقد ناقشنا إمكانية اكتشاف هذه الأخلاق في المقال السابق، وإمكانية التفكير في وجودها في المقال الذي قبله. وبالنسبة لهذه الفرضية، فإن الأخلاق كشيء لا يُمكن الوصول إليه، لا يُمكن أن تكون لها علاقة بمسألة النقد الأخلاقي للدين، كون ذلك النقد يتم على أساس أخلاق موجودة في متناول الوعي الإنساني. 

 

الفرضية الثانية تتكلم عن الأخلاق كشيء لا يوجد كحقيقة مستقلة عن الإنسان، كأمر نسبي، والقانون الأخلاقي كقانون اعتباطي ولا يشبه "قوانين الطبيعة" أو ما يُفترض أنه قوانين الطبيعة. أي أن القانون الأخلاقي لا يملك أساسا أنطولوجيا خارج الإنسان، وليس ذلك فحسب وإنما هو أيضا بلا أساس داخل الإنسان نفسه.. الأخلاق كشيء لا يتأسس على مستوى الإنسان كفرد، وإنما على مستوى المجتمع، أي أن الأخلاق شيء اجتماعي في أصله.

 

وإذا كان النقد الأخلاقي للدين يتم على أساس هذه الفرضية، فهو نقد تنحصر مشروعيته داخل حدود المجتمع الذي تتم فيه ممارسة هذا النقد. فالذي يعطي الأخلاق قيمتها ومعناها -وفقا لهذه الفرضية- هو المجتمع، وكذلك هو الذي يمنح النقد مشروعيته ومعناه.

 

ولكن من المعروف أن مجرد تواضع مجموعة محددة من الناس، مهما كانت كبيرة، حتى لو كانت تشمل الأغلبية الساحقة من البشر، على قيم ومعايير للسلوك الإنساني لا يمنح هذه القيم والمعايير معنى أكبر من كونها شيء اعتباطي. من الممكن بالطبع، أن يتواضع البشر، لسبب أو لآخر على أشياء ذات معنى حقيقي، ولكن المشكلة هي ماذا لو تواضع البشر على أشياء غير صحيحة؟

 

إننا لا نملك إلا أن نفكِّر من داخل نطاق ثقافتنا وتاريخنا، ليس بسبب كونهما الحق المطلق، وإنما بسبب نسبيتهما ونسبية كل الثقافات الإنسانية، حتى الأكثر تقدما

وبما أننا نتساءل من داخل الاجتماع الإنساني الذي -وفقا لهذه الفرضية- وضع القيم والمعايير، فبأي معنى نتكلم عن أشياء "غير صحيحة"، ففي النهاية ليس هناك شيء صحيح أو غير صحيح إلا بالنسبة لاجتماع إنساني، يوجد فيه الإنسان الذي يفكِّر ويتساءل !

 

في مقال سابق بعنوان "في نقد النزعة الأسطورية" تكلمت عن أننا لا نملك إلا أن نفكِّر من داخل نطاق ثقافتنا وتاريخنا، ليس بسبب كونهما الحق المطلق، وإنما بسبب نسبيتهما ونسبية كل الثقافات الإنسانية، حتى الأكثر تقدما، وتطرقت إلى الإشكالية التي تثيرها كلمة تقدم نفسها، ففي النهاية هناك ثقافات نسبية لا تملك كل منها معايير أكثر صحة من الأُخرى وذلك لعدم وجود إطار واحد تجري فيه المقارنة والمفاضلة. معنى هذا الكلام أنه لا يجب على المرء أن يفكِّر كما لو كان يعيش في كل الكوكب، في كل المجتمعات والثقافات في آن واحد.

 

ولكن ما الفرق حينها بين ذلك وبين الانغلاق على الذات؟ إن التفكير الفلسفي يُعنى بالكليات، وعندما نتساءل عن الإنسان والأخلاق سنجد أنفسنا بشكل تلقائي نفكِّر في أُفق أوسع من حدود المجتمع والتاريخ الذي نُوجد فيه. ففي كل مجتمع تقريبا، هناك قواعد للسلوك، وإذا كان السؤال هو عن السلوك الذي يجب على الفرد اتباعه في مجتمع محدد فإن الإجابة قد تكون منتهى الوضوح من وجهة نظر ذلك المجتمع، ولكن عندما نفكِّر عن قواعد السلوك الإنساني، فنحن نتكلم عن شيء يتعلَّق بكل البشر في كل مكان. وهذا ما تحاول الإجابة عليه كل من الفرضيات الثلاث حول الأخلاق كما تم سردها في الجزء الأول.

 

يتبع..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.