شعار قسم مدونات

عوالم داخلية

Blogs- crowd
منذ أن كنت صغيراً أشعر بأن شيئاً ما يجعلني مختلفاً، أذكر جيداً في الثاني الابتدائي وعندما بدأت الآنسة (وصال) تسأل طلاب الصف عن ما يريدون أن يصبحوا عندما يكبروا، فيجيب أغلبهم بالطبيب والمهندس وغيرها من الأجوبة المعتادة التي يجيبها الطلاب بذلك العمر، ولكن منهم من اختلف قليلاً ليكون جوابه بالنجار أو المزارع كما مهنة والده، وصل الدور إلي وسألتني الآنسة وبابتسامة منها صغيرة وبنبرة مختلفة كنت قد اكتشفت أنها قد تهيأت لسماع جواب غير معهود فجاوبتها حينها برائد فضاء، تلك الأمنية التي أظنها قد رافقتني منذ اللحظة الأولى لنزولي على هذه الدنيا، استغرب الطلاب وبدأوا يتمتمون فمنهم من لم يعرف المعنى أصلاً ومنهم من طغت عليه علامات الاستغراب والذهول، ولكن عندما كبرت وفي مكانٍ وزمانٍ سيئين عرفت أني لن أكون أبداً كما تمنيت بل بالكاد استطعت مؤخراً دخول الكلية .

     

بل نحن لماذا نكبر من الأصل ولماذا سنكون، وهل نحن نعيش الزمن كاملاً بماضيه ومستقبله أم أننا نعيش اللحظة فقط ، دائما ما أشك أن لا وجود للماضي ولا المستقبل أيضاً، دائماً ما تستوقفني عبارة كان كتبها صديقٌ لي "إننا محض مرورٍ عابر" فتوقظ ما بداخلي من سرائر وذمم، فجميعنا سيفنى كل من عرفناهم كل ما رأيناه وجميع ما شعرنا به، كل مواقفنا السعيدة منها أو الحزينة، كل الأماكن التي زرناها وكل الطرق التي سرنا فوقها، كل الأيادي التي أمسكت بنا وأمسكنا بها، كل الوعود وكل لحظات العناق، كل الجلسات، كل لحظات اللوم أو الشكر، جميع العيون التي تأملناها وجميع الروائح التي شممناها، كل من عاش في القرون السابقة وكل من أتى بعدهم أو سيأتي جميعهم وجميعنا عابرون، جميعهم وجميعنا زائلون.

وما أنا إلا جرم قد مر من أمام ذلك الثقب فالتهمه وغير ملامحه وطغى عليه الخجل لما حصل له من تشوهات فقرر العزلة والقعود هناك إلى الأبد
وما أنا إلا جرم قد مر من أمام ذلك الثقب فالتهمه وغير ملامحه وطغى عليه الخجل لما حصل له من تشوهات فقرر العزلة والقعود هناك إلى الأبد

يوماً ما، بل في لحظة ما، لأنه لا وجود لليوم في ذلك الوقت، سينتهي عمر الأرض المكتوب ونكون حينها وكأننا لم نكن، غالباً ما يقطع سلسلة أفكاري تلك قول الله عز وجل ((وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ، لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ)) فتنهي تلك الآية أسئلة وتفتح أسئلة أخرى .فمن الأمور العميقة إلى الأمور العادية البسيطة واليومية، أسافر في خيالي، أبدأ رحلتي التفكيرية بشيء ما قد حصل معي للتو ولكن سرعان ما أنتقل لمواضيع أكثر تعقيداً أكتشف أنها كالمتاهة لا بل كنظام الجذور المتفرعة جذرٌ فاثنين فأربعة وهكذا ، أشعر بشيء لم أشعر به منذ مدة، ولكن أعرف في قرارة نفسي أنه شعور مزيف، أشعر بسعادة أني عرفت شيئاً عن هذه الحياة وأن الحياة بكل مكوناتها مترابطة مع بعضها.

    

يصرخ أخي الصغير بجانبي ينحدر بصري الشاخص عن السقف تدريجياً، أشعر وكأنني قد عدت من رحلة ذهنية لربما استغرقت عشرون دقيقة، أنظر إلى ساعة الحائط أو إلى هاتفي الذي لم أكد قد أنزلته من يدي لأعرف أن كل ذلك الوقت لم يكن سوى دقيقة أو دقيقتين، هنا يبدأ إدراكي لنفسي أني ما زلت مكاني وبنفس حالتي، أقول لنفسي حيناً أو ربما تقول نفسي لي أنني مختلف ومميز شيئاً ما، وبعد أجزاءٍ من الثانية تدخل كلمة أو على نجواي وأقول أو كوردةٍ سوداء ذابلة في كتابٍ ما قديم على سقيفة المنزل كان لها قصة جميلة في يومٍ ما وهي الآن منسية نتيجة عبثٍ أو سوء تصرف. خفايا وسرائر كانت قد امتدت لتطغى على هيكلي الخارجي حتى بدأتُ أعتقد أنه لن أصادف من يماثلني أو يفهم عليَّ تلك الأمور التي لا أستطيع شرحها إلى أن قرأت في إحدى المرات فقرة تتكلم عن شخص يدعى "براندن بريمر" الشخص الذكي الذي عزف على البيانو في عمر الثالثة ودخل الكلية في عمره الحادي عشر غير أن أهله وبدون سابق إنذار أو أي مشاكل أو علامات اكتئاب وجدوه منتحراً في غرفته.

         

 تلك الأحاسيس التي أبت أن تخرج فهي كما جزيئات الضوء في ثقبٍ أسود لم تستطع الخروج، كجرم قد مر من أمام ذلك الثقب فالتهمه وغير ملامحه وطغى عليه الخجل لما حصل له من تشوهات فقرر العزلة والقعود هناك إلى الأبد

منذ أن قرأت قصة ذلك الصبي وأنا أتبنى أفكاره المخفية وأعتقد في نفسي أني أعلم أفكاره تلك التي دفعته للانتحار فلا بد أنها تلك الأسئلة الوجودية التي ما فتئت تَطرُق عليَّ وتصادفني في كل مرة قبل النوم وتستغل لحظة شرودي لتتغلغل تحت غشاءِ عينيَّ البصري، فقد أكون شارداً في محاضرة البارحة أو في موعدٍ كنت أجهز له لكن ما إن أنتهي من شرودي ذاك حتى أكتشف أني وصلت إلى ما وراء نجمٍ سحيق أو إلى قبيلة كانت قد عاشت قبل آلاف السنين في زاوية ما على سطح هذا الكوكب.

       

فمن تنبؤاتٍ ومنامات تحصل بالفعل إلى أهدافٍ وتطلعاتٍ لم يتحققوا، فمنامٌ على سبيل الصدفة وبدون أن أجهز لشيءٍ ما بعد أو قبل أن أراه يتحقق وهدف منذ الطفولة يقف عاجزاً عن المضي أمام عثرات وجدران ألاعيب الحياة، عثراتٌ وجدرانٌ كانت قد بدأت منذ وفاة زميل مقعد المرحلة الإعدادية حتى تأتي بعدها وفاة والدي أيضاً وهنا أتساءل بشدة ماذا عن تلك اللحظات التي قضيناها معاً أنا ووالدي، ماذا عن ذهابنا للمسجد لصلاة الفجر وعن تعليمه لي اللغة العربية وبحور الشعر التي لم أتقنها، ماذا عن جلستنا تلك على شرفة المنزل التي ملأتها نصائحه وحروفه هل يعقل أن جميعها حصلت وجميعها الآن سراب !

     

كيف لهذه الأحداث الرائعة ألا تحصل سوى مرة واحدة في هذه الحياة لماذا لا توجد طريقة تجعلنا نعيد تلك الأمور التي انصرمت أو حتى أن نقف عندها إلى الأبد بدون حراك، أم أننا وتلك اللحظات سنصبح في وقتٍ ما مجرد غبارٍ يحوي بين جزيئاته أسماء وأماكن ومشاعر كانت قد حصلت على امتدادٍ ما للشريط الزمني الوجودي لهذا الكون المعقد أو ربما البسيط لأنه حتى مجرد لحظة لا يمكننا الرجوع إليها أم أن هذا الأمر بالذات هو من تمام مفهوم التعقيد لهذا الكون؟ أما عن الذي لم أستطع البوح به والذي لم تكن لدي القدرة على صياغته أو حتى تلك الأحاسيس التي أبت أن تخرج فهي كما جزيئات الضوء في ثقبٍ أسود لم تستطع الخروج وكما جرم قد مر من أمام ذلك الثقب فالتهمه وغير ملامحه وطغى عليه الخجل لما حصل له من تشوهات فقرر العزلة والقعود هناك إلى الأبد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.