شعار قسم مدونات

انتخابات وحروب

blogs الأمم المتحدة

كل شيء حولنا، على هذا الكوكب، آخذ في الاضطراب. ليست أزمة الصواريخ الكورية الشمالية سوى إشارة قوية على خطورة الطريق الذي يمضي فيه هذا العالم، وما يمكن أن يجلبه نظام أوتوقراطي لشعبه وللعالم. في مؤتمر داڤوس الأخير دافع ترمب، الذي يرأس أكبر دولة ليبرالية في العالم، عن الحمائية. بينما دافع الرئيس الصيني، رئيس أكبر دولة اشتراكية في العالم، عن الليبرالية محذراً زعماء العالم "ليس علينا أن نعود إلى الشاطئ كلما هبت الرياح، وإلا فإننا لن نكمل قط رحلتنا". وخلال عشر سنوات تراجعت حوالي ٤٠ دولة عن الديموقراطية، كما يرصد إدوارد لوسي في عمله الأخير "تراجع الليبرالية الغربية". يدور كل شيء في غير اتجاهه، ولم يعد ممكناً القول إن صيغة رياضية معينة بمقدورها شرح الطريقة التي يدور بها هذا الكوكب. 

ضرب الربيع العربي، قبل ستة أعوام، في تونس أولاً. لكن موجاته، أو لنقل تبعاته، استمرت تضرب في كل مكان، في كل القارات، حتى ضربت ولايات حزام الصدا في الولايات المتحدة الأميركية، ودفعت النظام الروسي لخوض حروب بربرية خارج أرضه.

التململ الاجتماعي في أميركا جاء بترمب رئيساً. وقادت موجات الربيع العربي إلى حرب طاحنة في الشام، في العراق، في شمال أفريقيا، وفي جنوب الجزيرة العربية. الحرب التي شنتها القوى المحلية والدولية ضد رغبة الشعوب وحقها في الحرية ولدت أكبر موجة لاجئين في القرن الجديد. أيقظ موضوع اللاجئين اليمين الأوروبي من سباته، ونجت دول كبيرة مثل هولندا وفرنسا من قبضة الفاشية بصعوبة بالغة. 

إفلاس شركة إير برلين في الأسابيع الماضية، بعد أن تراجعت أبو ظبي عن حقن الأموال المطلوبة في حساب الشركة، يعطينا انطباعاً كئيباً عن الضرر الذي يمكن أن تلحقه الأنظمة الوحشية، وغير الديموقراطية، باستقرار العالم
إفلاس شركة إير برلين في الأسابيع الماضية، بعد أن تراجعت أبو ظبي عن حقن الأموال المطلوبة في حساب الشركة، يعطينا انطباعاً كئيباً عن الضرر الذي يمكن أن تلحقه الأنظمة الوحشية، وغير الديموقراطية، باستقرار العالم
 

عربياً صارت السعودية، الدولة العربية الأقوى اقتصادياً، تُحكم لأول مرة في تاريخها من أبو ظبي. وصفة الحكم البوليسية المميتة التي استعارها ولي العهد من النظام الإماراتي تعمل على تقويض الاستقرار الهش في العربية السعودية، وتحول تلك الدولة إلى شرطي ضخم فاقد للعقل والكفاءة. سبق للدولة السعودية أن انهارت، واختفت من الوجود، مرتين: في الربع الأول والربع الأخير من القرن التاسع عشر.

انطلقت الموجة الأولى من اللااستقرار العالمي في ٢٠٠١ عندما هاجم ١٩ إرهابي، ٧٩٪ منهم سعوديون، أميركا. عبر سلسلة معقدة من الإجراءات الاقتصادية، التي اتخذها غرينسبان رئيس الاحتياطي الفيدرالي في محاولة لإثبات حتمية واستقرار الحلم الأميركي أمام التهديد الجديد، انفجرت الفقاعة الاقتصادية. انفجرت الفقاعة أولاً مع انهيار ليمان بروذرزس، ثم أخذت تسحق الاقتصاد العالمي كله، حتى إن حكومات أفلست وتلاشت. وبدا أن العالم آخذ في التشظي والتفكك، وأن استقراره، أو أي فكرة شاملة عن إمكانية استقراره، صارت محل شك عميق.

جاء الربيع العربي ووضع حداً للشكل الذي كانت عليه منطقة الشرق الأدنى من قبل. واقعياً فالربيع العربي لم ينجز دولة الحرية التي نادى بها، لكنه أحدث تغييراً عميقاً في كل شيء، من التاريخ إلى نظام الانفعالات النفسية، من المغرب حتى إيران.

الكوكب محتشد بالسكان كما لم يحدث من قبل. وهو بحاجة إلى نظام يحقق أمرين مركزين: الأمن، والعدالة. تراجعت الليبرالية الغربية عن التبشير بنفسها، ولم يعد هناك من أحد يتحمس لخطاب كينيدي، ١٩٦٢، عن شعلة الحرية التي ستصل إلى كل المجتمعات. لكن خطابين تبشيريين آخرين قادمين من موسكو وبكين يثيران القلق. فالبروباغاندا الصينية، عبر قنواتها الناطقة بعشرات اللغات، مشغولة بتقديم صورة سوداء عن الليبرالية الغربية، عن هزيمتها ومأزقها المعاصر. وبالضرورة، فإن الديموقراطية تقع في صميم الليبرالية الغربية.

 

استطاعت ميركل أن تنجو بألمانيا في عالم شديد التموج، ومعها حفظت أوروبا أولاً ثم اليورو من التفكك

الديموقراطية هي الموضوع الذي تسعى البروباغاندا الصينية، في نهاية المطاف، إلى السخرية منه ثم سحقه. القنوات الروسية، أيضاً، أصبحت تصل إلى ما يقرب من ثلث مليار نسمة حول العالم. وهي تنشط، بشكل أساسي، على البروباغاندا المناهضة للديموقراطية. تبدو مواجهة من طرف واحد أمام ليبرالية منكفئة، ومتراجعة على نحو متزايد.

إفلاس شركة إير برلين في الأسابيع الماضية، بعد أن تراجعت أبو ظبي عن حقن الأموال المطلوبة في حساب الشركة، يعطينا انطباعاً كئيباً عن الضرر الذي يمكن أن تلحقه الأنظمة الوحشية، وغير الديموقراطية، باستقرار العالم. فقد أصبح الاقتصاد العالمي على خبر يقول إن الشركة الألمانية العملاقة في طريقها للإفلاس. التعليقات التي حاولت شرح الانهيار المفاجئ للشركة ذهبت إلى ربطها مباشرة بموقف الحكومة الألمانية من الأزمة الخليجية الأخيرة، كما ذهبت ديرشبيغل.

 

أرادت حكومة أبو ظبي معاقبة الحكومة الألمانية، فتراجعت عن وعودها بإسناد الشركة مالياً حتى نهاية العالم ٢٠١٨. سبق لأبو ظبي، كما يقول تقرير مطول للغارديان، أن عاقبت لندن في العام ٢٠١٢ بطريقة مماثلة، بعد أن رفضت الأخيرة الامتثال لرؤية وطلبات أبو ظبي فيما يخص الربيع العربي، والموقف من جماعة الإخوان المسلمين.

في الانتخابات الألمانية الأخيرة، ٢٤ سبتمبر، منحتُ صوتي للائتلاف المسيحي الديموقراطي الذي تقوده ميركل. كانت هذه الصورة العائمة والمضطربة للكوكب ترتسم أمامي. استطاعت ميركل أن تنجو بألمانيا في عالم شديد التموج، ومعها حفظت أوروبا أولاً ثم اليورو من التفكك. اختارت مجلة التايم، الشهيرة، ميركل كشخصية العام. وكانت الرسالة التي بعثتها ميركل إلى ترمب، بُعيد انتخابه، تاريخية بالنظر إلى معناها وزمنها وطرفيها. فقد عرضت على الرجل العمل المشترك فقط إذا كان العمل معه سيرتكز على المبادئ الحضارية الأساسية التي تشكل الديموقراطية والتسامح أهم ركائزها.

في هذا العالم يعاني حوالي ٢٠ مليون يمني من الجوع والكوليرا، ويقف المجتمع الدولي عاجزاً عن وضع خاتمة لتلك الحرب، ولا يبدو أنه سيفعل ذلك في قريباً
في هذا العالم يعاني حوالي ٢٠ مليون يمني من الجوع والكوليرا، ويقف المجتمع الدولي عاجزاً عن وضع خاتمة لتلك الحرب، ولا يبدو أنه سيفعل ذلك في قريباً
 

في الشرق الأدنى تزعزع الدولتان الدينيتان، السعودية وإيران، الاستقرار على نحو مستدام. يقول النظام الأساسي للدولتين إنهما دولتان إسلاميتان. وبالضرورة فكل دولة تتبع إسلاماً بعينه. يقوم إسلام كل منهما، على نحو جوهري، على أساس الرغبة في إزالة إسلام الآخر، أو دفعه ليعيش في الهامش بلا فعل. عن طريق قواها المسلحة خارج الحدود استطاعت إيران أن تقضي على موجة الربيع العربي في سوريا والعراق واليمن.

علينا ألا ننسى أن العراق شهد انتفاضة واسعة ضد تطييف الدولة العراقية والانحراف بها بعيداً عن فكرتي العدالة والحرية، ونصبت خيام المعتصمين في مناطق واسعة بين ٢٠١١ ـ ٢٠١٣ على طريقة خيام الربيع العربي في اليمن. هاجمت قوات المالكي المعتصمين، ومارست القتل والاعتقال والتنكيل. وصفت الحكومة العراقية المعتصمين بالإرهابين، ولم يمض سوى وقت قريب حتى كانت داعش في الواجهة تغطي على كل شيء.

أما السعودية فراحت تقوض الربيع العربي في مصر وليبيا مستخدمة المال والجماعات السلفية الراديكالية التي تدين لها بالولاء أكثر من ولائها لدولتها القومية. حالة من التفكك الكبير يشهده العالم ويقف عاجزاً. اختارت مجلة التايم "عار ماينمار" لتضعه عنواناً لغلافها. أما الأمم المتحدة فقالت في تقرير أخير أن نظام بشار الأسد هاجم شعبه بالسلاح الكيماوي عشرين مرة حتى الآن.

 

يصبح المجتمع الدولي، على نحو متزايد، أثراً. فهو يقف عاجزاً عن إيقاف التصفية العرقية/ الدينية التي تنفذها دولة من دول العالم الثالث في حق ٢٪ من مواطنيها الذين يدينون بدين آخر، أو مع نظام هش يهاجم شعبه بأسلحة الدمار الشامل. في هذا العالم أيضاً يعاني حوالي ٢٠ مليون يمني من الجوع والكوليرا، ويقف المجتمع الدولي عاجزاً عن وضع خاتمة لتلك الحرب، ولا يبدو أنه سيفعل ذلك في قريباً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.