شعار قسم مدونات

في رحيل مهدي عاكف.. شيء من الحزن واليقين

blogs عاكف

ما زلتُ أبحث في قلبي عن سرّ هذا الحزن العميق والغامض الذي يستغرقه منذ شيوع خبر استشهاد محمد مهدي عاكف، أعود لمشاهدة تسجيلات تلفزيونية قديمة له، فيدركني تأثر بالغ كأنما يبقيني في تلك الأزمان الغابرة التي يتحدث عنها وهو يروي سيرة حياته وجهاده وعمله، أُصغي إلى صهلة الحياة إذ ترصّع صوت هذا القادم من سجونه المعتمة، فتدهشني مساحة الألق على محيّاه وفي طيّات حديثه الممتلئ ثقةً واستبشارا.

 

ثمّ أجد أن حزني ذاك ليس رثاءً لنهايته الدنيوية، فأي شرف يعلو على أن يختم المرء حياته بعزة، غير مفتون في دينه، ولا مهرول خلف أذيال طاغية. وهو ليس إشفاقاً على حاله إذ قضى وحيداً في سجنه، لأنني أحسب أن جنة الرجل الفسيحة كانت في صدره، وأن الحرية خارج أسوار سجنه وعلى امتداد مصر المقهورة ليست بهيّة ولا مغرية بالانتظار، وأحسب أن من يقدّر له التحرر من سجونها لن يظفر ببهجة الانعتاق حين يدلف إلى ساحاتها فيراها مجدبة ومقفرة من البهاء، الذي احتبس مع آلاف الرجال خلف القضبان، وترك كل هذا المدى معتما، ولون العتمة يُحزن ويُشجي، وينحت من نضارة القلب، فلا عجب أن يزهد الأحرار بحرية موهومة خارج الأسوار العالية، وأن يدركوها حتى وأيديهم في الأغلال.

 

لم يصبر نظام السيسي على أن يعيش مهدي عاكف آخر أيامه طليقا فيرحل رحيلاً عاديا.. لم يطق الظلمة أن يتخففوا من نزعة حقدهم قليلاً فأصروا على قتله
لم يصبر نظام السيسي على أن يعيش مهدي عاكف آخر أيامه طليقا فيرحل رحيلاً عاديا.. لم يطق الظلمة أن يتخففوا من نزعة حقدهم قليلاً فأصروا على قتله
 

لكنه الحزن لأن بلداً كبيراً مثل مصر، ومعها كل حواضرنا، لا يزال الطغاة يتعاقبون على حكمها، وعلى الفتك بأحرارها، وعلى الإيغال في الظلم والعدوان، دون أن تلوح لنهايتهم إشارة، أو أن يجد بعض إجرامهم ردّا. ولنا أن نتصور معنى ومغزى أن يكون أول اعتقال لمهدي عاكف في عهد الملك فاروق، أي قبل نشوء حكم العسكر في مصر، في عصر يبدو الآن مغرقاً في البعد والقدم، لكنه يحاكي واقع اليوم في كثير من خصائصه، مع فارق أن مدى الظلم تطاول اليوم واشتدّ، وأضحى أكثر بغيا.

 

قلّ أن تجد حراً في هذا الزمان إلا وللحزن مساحة في روحه، قد لا يكون حزنَ يأسٍ وقنوطٍ من رحمة الله، لكنه حزنُ إدراكٍ بأن باطن الأرض صار خيراً من ظاهرها، بعد أن تسوّد الأقزام وفرضوا لغتهم ومقاساتهم وحدودهم، غير أنّ جداراً عالياً من اليقين يأبى أن يتصدع في نفس المؤمن، والمعتقد جازماً بأن (الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته).

 

نشاهد في سيرة عاكف قرناً كاملاً من الظلم، وقد قُدّر للرجل خلاله أن يتذوّق مرّ كل كؤوسه، وأن يكون خصماً لكل من تعاقب فيه من طغاة

وفي مطلع أي محنة قد يستعذب المرء طعمها ليقينه بأن هناك صبحاً يوشك أن ينبلج من ثناياها، والإنسان بطبعه العجول يتصور أن بضع سنوات كفيلة بتغيير ملامح واقع بكامله وإحلال أخرى مكانها، حتى إذا طال عليه الأمد ضجر وتعب، أو تململ وانسحب.

 

أما في حالة الشهيد -بإذن الله-  محمد مهدي عاكف فنحن نشاهد في سيرته قرناً كاملاً من الظلم، وقد قُدّر للرجل خلاله أن يتذوّق مرّ كل كؤوسه، وأن يكون خصماً لكل من تعاقب فيه من طغاة، لكنه لم يستسلم لذلك الأسى الذي خلّفته كوارثهم، بل ظلّ مشرقاً بالأمل وحادياً للإقدام وصاعداً في مدارج العزيمة، حتى بلغ أعلاها وحاز منتهاها، فشاء الله له ألا يختم حياته على فراشه بل في سجون الظالمين. وفيما ينصرف الفهم العاميّ القاصر إلى أن (حسن الخاتمة) هو أن يموت المرء في وطنه وبين أهله ومحبّيه، وقد وجد من يقوم برعاية شؤونه، ثم تحضير جنازة وعزاء لائقين بمقامه، فإن حسنها في عُرف الكبار الأباة يتلخّص في أن يقبض الله أرواحهم وهم ملتزمون صراطه وقائمون بمقتضيات الجهاد في سبيله، ولا يهم على أي جنب، أو في أي حال، أو تحت أي سماء.

 

ثمة معانٍ في رحيل محمد مهدي عاكف تحاكي نظيرتها في رحيل أحمد ياسين، إذ لم تصبر دولة الاحتلال على الشيخ أحمد ياسين بضعة أيام، كان متوقعاً أن يقضي بعدها على فراشه بفعل اشتداد المرض عليه، لكنها عاجلته بصاروخ، ولم يصبر نظام السيسي على أن يعيش مهدي عاكف آخر أيامه طليقا فيرحل رحيلاً عاديا.. لم يطق الظلمة أن يتخففوا من نزعة حقدهم قليلاً فأصروا على قتلهما، لكن الشهيدين تحولا بهذه النهاية إلى منائر هادية، ونجوم طافحة بالضياء، وحاثّة على السموّ والارتقاء.

 

وسيظلّ من يحتاج انبلاج هذه المعاني في قلبه يقتبس من سيرتهما، ومن همتهما العالية، وخاتمتهما الجليلة المعنى، بعد أن صارا سنديانة عتيقة، ظِلُّها متجدد وخضرتها دائمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.