شعار قسم مدونات

قتلةٌ طيّبون.. عن صراع القانون والعدالة!

blogs - The Equalizer

"سأبدأ بطرح الأسئلة، إذا لم تُجب إجابات صحيحة ووافية، فستعاني أكثر ممّا يجب! سوف أستأصلُ أصابعك، واحدةً تلو الأخرى!".

لم يكن الرجل يمزح، فبعد أوّل إجابةٍ ساخرة، مدّ سكينه وقطع إصبع أسيره! انهار المسكين، ولم يدّخر نصف معلومة! ثم قُتل شرّ قتلة، وبينما النارُ تلتهمُ جسد القتيل الشرير وسيارته، يهمس "القاتل الطيّب": الانتقام طبقٌ يُستحسن أن يُقدّم باردًا!

ما سبق، وصفٌ لمشهد أسطوريّ من مشاهد فيلم "Man On Fire"، حيثُ يُلاحق ضابطُ السي آي إيه السابق "جون كريزي" يمثله "Denzel Washington"، يلاحقُ عصابةً اختطفت الطفلة التي كُلّف بحمايتها، وفي طريق العثور عليها/الانتقام لها، يرتكبُ كلّ ما يخطر ببالٍ من الفظائع بحقّ أفراد العصابة التي تورّطت في ذلك.

لا يمثّل "واشنطن" جهةً شرعيّة، ليس شُرطيًّا ولا محقّقًا، بل مستقلُّ تمامًا، كأنّ صُنّاع أفلامه أرادوا تحريره من كل التزام، حتى يرتاح أكثر في "تحقيق العدالة"، بعيدًا عن تعقيدات الصواب والخطأ

في ""The Equalizer، يكرّر دينزل واشنطن نفسه، رجل "كوماندوز" معتزل، يُجبرُ على العودة إلى عالم القتال، هذه المرّة للانتقام من عصابةٍ تمتهنُ تجارة "الرقيق الأبيض"، اعتدت على فتاةٍ جمعتها به الصدفةُ المحضة! ليعود  ويتفنن -كما في Man on Fire – في صبّ ألوان العذاب على المجرمين الآبقين!

يبدو أنّ دور "سيف العدالة" أعجب دينزل واشنطن كثيرًا، حيث ينتظر جمهوره فيلمه الجديد "The Equalizer2" ليكون جزءًا ثانيًا، وقد تمتدّ القصة في سلسلة أفلام مشابهة.

في أفلامه المذكورة، لا يمثّل "واشنطن" جهةً شرعيّة، ليس شُرطيًّا ولا محقّقًا، بل مستقلُّ تمامًا، كأنّ صُنّاع أفلامه أرادوا تحريره من كل التزام، حتى يرتاح أكثر في "تحقيق العدالة"، بعيدًا عن تعقيدات الصواب والخطأ، وبالمقابل فإنّ العُدوان على منظومة التحاكم القانونيّ ليست كبيرة، إذ قد يجدُ المشاهد لما يراه تخريجًا من قبيل: "وما ظالم إلا سيُبلى بأظلم"، أو يراه استجابةً لدعاء "اللهم اضرب الظالمين بالظالمين"، وليست هذه بعيدةً بالمُطلق، خصوصًا إذا تأمّلت حُضور "الكتاب المقدّس"، أو "الصليب" في حياة البطل، كأنّه يدُ العدالة الإلهية، غير الرسمية!

يشتدُّ صراع العدالة والقانون عندما يكونُ البطلُ شرطيًّا! هُنا جوهرُ الصراع الحقيقيّ، أن تتأمّل التردد والحرج في نفس ضابط/محقق ما، منوط به حمايةُ الناس من الإجرام، ومتقيّد -في الوقت نفسه- بالقوانين التي أقسم على الالتزام بها.

في فيلم "Blitz" أو "الهجوم الخاطف" ترى يد القانون عليلةً كليلة، ثمة قاتل متسلسل يُطارد رجال الشرطة، صغار السنّ منهم تحديدًا، أو قل: الضعفاء وقليلي الخبرة وحسان الوجوه غالبًا، ضحايا مثاليون لإثارة الغضب والحنق في نفس المشاهد، وفي نفوس المحققين المذهولين بتساقط رفاقهم واحدًا تلو الآخر.

في هوليوود، ثمة من يحرصُ أيضًا على التذكير بأنّ القانون على علله، أكرمُ وأعظم تحقيقًا للعدالة من بسط الأيدي بالبطش والانتقام، وأنّ طريق تطبيق العدالة بعيدًا عن القانون أشدُّ كلالةً وضياعًا

يظهر المجرم "ويس"/ Aidan Gillen كائنًا قميئًا بكلّ ما تحمله الكلمة من معانٍ، يثيرُ الغيظ والاشمزاز إلى أقصى درجة، يقبضُ عليه الضابطُ العصبيّ "برانت" يقوم بالدور Jason Statham ويرغبُ في تحطيم وجهه، لكن رئيسه في العمل يمنعُه، ليدع القانون يأخذ مجراه. خذل القانون الرجال، ولم يستطيعوا إثبات دليل واحد يُحافظ على السفاح ثقيل الظل داخل السجن، ليخرج خر  وج الأبطال من بوابته، وعشرات الكاميرات تنتظره في مشهدٍ شديد الإثارة والإغاظة معًا!

في هذا الفيلم تحديدًا، تودّ أن تقتحم شاشتك، وتدخل لتُحطّم رأس المجرم بمطرقةٍ كالتي استعملها في قتل بعض ضحاياه، وتلعن أبا القانون وأمّه، إذ يسمحُ لسفاح معتوه كهذا أن يبقى حُرًّا طليقًا مستمرًّا في الإجرام! كان الفيلم تنظيرًا فجًّا لتجاوز القانون، وإطلاق أيدي رجال الشرطة!

ثمة موقفٍ شديد الشبه، في الفيلم العظيم "The Departed"/ المغادرون، حين ينجح "سوليفان" المجرم المُندسّ بين رجال الشرطة (يمثله Matt Damon)، بدهائه ومكره وحظّه العجيب في أن يدفن جريمته أكرم دفن، وأن يخرج من أزمته بطلًا مكرّمًا، بينما يتوزّع الأبطال الصالحون الحقيقيون بين قتيلٍ برصاصه، ومنبوذٍ بفعل ألاعيبه وأكاذيبه! هنا أيضًا يبدو القانون في موقفٍ لا يُحسد عليه! وتودّ أن تهتف في آخره: السيفُ أصدق أنباءً من كتب المحاماة والله يا جماعة!

في هوليوود، ثمة من يحرصُ أيضًا على التذكير بأنّ القانون على علله، أكرمُ وأعظم تحقيقًا للعدالة من بسط الأيدي بالبطش والانتقام، وأنّ طريق تطبيق العدالة بعيدًا عن القانون أشدُّ كلالةً وضياعًا، وكثيرًا ما تكونُ العدالةُ المنشودة في الظلام، مجرّد ادّعاءٍ زائف، وأنّ محققي العدالة خارج القانون ليسوا أكثر من مجرمين بزيّ رسمي!

في عالمنا العربيّ الحزين، فكم تبدو نقاشاتٌ تثيرها أفلامٌ كهذه ترفًا حالمًا، فليست العدالة متوفّرةً للأبرياء والضحايا، حتى ننشدها للمجرمين

في فيلم "The Place Beyond the Pines" أو "خلف أشجار الصنوبر"، ترى رجال العدالة الزائفة، يقتلون مجرمين قد يصلحهم السجن لا القتل، لا لأجل العدل، بل لأغراض أدنى وأتفه من ذلك بكثير! ترى المجرم -مهما فعل- إنسانًا لا يعدمُ في نفسه الخير، ويستحقُّ -كائنًا من كان- أن يُحاكم بجرمه، وألا يُهدر دمه ولا حقوقه.

ومهما كانت الأفلامُ السابقة مجلّيةً للصراع بين يد القانون ويد العدالة الناجزة، فإنّ أهمّ فيلم ناقش هذه القضية برأيي، هو فيلم "Righteous Kill"، أي: "قتل مبرّر". يُحقق فيه "روستر"/Al Pacino، و"ترك"/Robert De Nero، في جرائم قتل متسلسلة، يستهدف مرتكبها القتلة الهاربين من يد العدالة، ومغتصبي الأطفال المبعدين عن الشبهة، وأمثال هؤلاء، ويترُكُ قُرب جثث ضحاياه قصائده الساخرة!

في هذا الفيلم تجد الانحراف الصغير في أول الطريق لا يلبث أن تتسع زاويته، وكما قال القاتلُ في نهايته: "لم أستطع التوقّف، ثم لم أرد أن أتوقّف!" يعني: عن القتل لأجل العدل!

في البلاد التي تصنع هذه الأفلام، تُعدّ هذه النقاشات مهمّة جدًّا، وتساهم في صناعة الوعي بحقوق الناس ومصائرهم، وإثارة الأفكار حول قضاياهم وهمومهم، أما في عالمنا العربيّ الحزين، فكم تبدو نقاشاتٌ تثيرها أفلامٌ كهذه ترفًا حالمًا، فليست العدالة متوفّرةً للأبرياء والضحايا، حتى ننشدها للمجرمين، والناسُ ضائعون بين قضاء بالغ الشموخ، وشُرطةٍ تمتهن البلطجة، فلا عدالة ولا قانون، ولا هم يحزنون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.