شعار قسم مدونات

"فن الشارع" يتحدى صخب المدينة

Blogs- sing
"عَيشة، عيشة.. إيكوتْ مْوا".. لم يكن مقطعا موسيقيا يصدح به صوت الشاب خالد، ولكنه مقطع تعود شاب مسلح بقيثارته على أدائه مساء كل يوم في ساحة "ماريشال" بالدار البيضاء. حيث تختلط الموسيقى بضجيج المارة والجمهور والسيارات التي ترتفع أبواقها، وهي تصارع الحافلات قرب ملتقى شارع الحسن الثاني والجيش الملكي.
 
جمهور من مختلف الأعمار يتابع بشغف المقاطع الموسيقية التي يؤديها "نجوم الشارع"، تارة يرددون معهم وتارة يساندونهم بالتصفيق، مكونين حلقة دائرية وسطها شباب مهووسون بمغازلة القيثارة وترديد الأغاني والمقاطع الموسيقية الشبابية. وهم ليسوا في حاجة إلى التراخيص ولا هم ينتظرون دورهم في صالات العرض ليبرزوا مواهبهم، بل اختاروا أن يقدموا عروضهم للناس متى سنحت لهم الفرصة لذلك. موسيقى، ألحان، ألعاب سيرك، غيرت ملامح ساحة "ماريشال" وبعثت في عروقها دماء فنية جديدة تحت مسمّى "فن الشارع".
من خارج صالات المسرح وأستوديوهات التسجيل انتقلت الموسيقى لتعانق صخب الشارع بفضل شبان لا يبحثون عن فرصتهم في النجومية أو لإشباع رغبة تلح عليهم، بل وفاء لهواية تعيش معهم. كل مساء يقفون في زاوية من ساحة "ماريشال" ومعهم آلاتهم الموسيقية ومكبارت الصوت الصغيرة ليطربوا آذان الواقفين حولهم والجالسين في المقاهي المقابلة للساحة، وقد اختاروا هذا المكان التاريخي في المدينة باعتباره قبلة لكل زائري الدار البيضاء، مغاربة وأجانب، ليجعلوا منه مسرحا لمحبي فنون الشارع.
 
منذ ثلاث سنوات، أصبحت شوارع أكبر المدن المغربية، كالدار البيضاء والرباط، تنبض على وقع "موسيقى الشارع" بعد أن غزتها فرق موسيقية ضمن ظاهرة فنية لم تكن مألوفة لدى المغاربة. وتستقبل الساحة فنونا عدة، على غرار الموسيقى والسيرك وحلقات المهرجين والبهلوانات، لتصبح مسرحا لكل الفنانين الذين لم يجدوا الفرصة لتقديم أنفسهم أمام الجمهور وفي المسارح؛ يختارون الفضاءات المفتوحة لاحتضان مواهبهم وليثيروا انتباه العابرين، يتجمعون على شكل حلقات فصارت ساحة "ماريشال" كأنها نسخة حديثة من ساحة جامع الفناء في مراكش أو ساحة الهديم التاريخية في مكناس.

تتصاعد التصفيقات من الجمهور عندما ينهي العازفون مقطعا ما، ويدعونهم إلى عزف المزيد، ما يؤكد نجاح هذا الفن وتغلغله وإعجاب الجمهور به
تتصاعد التصفيقات من الجمهور عندما ينهي العازفون مقطعا ما، ويدعونهم إلى عزف المزيد، ما يؤكد نجاح هذا الفن وتغلغله وإعجاب الجمهور به
 

وقد صنعت الساحة نجومًا، إذ لم يكن لـ"أمين"، وهو شاب في العشرينات من عمره، حل للوصول إلى النجومية التي يتمناها سوى البدء بالعزف في الشارع. "أعزف على القيتارة وألعب موسيقى الشارع ﻷصل إلى تحقيق الشهرة، لا أنتمي إلى فرقة موسيقية ﻷنني أريد أن أحقق شهرتي كمُغنٍّ، معي "أمين"، كاتب كلمات ويردد معي أيضا الأغاني التي نقدمها للجمهور ونحاول أن نخلق جوا موسيقيا رائعا رفقة الجمهور.. أطمح ﻷصنع إسمي كباقي الشباب، مثل حاتم عمور وسعد لمجرد وغيرهما من اﻷسماء. وقد بدأتْ قصتي مع الموسيقى من 2003″.. هكذا استقبلنا أمين بحفاوة عندما انتهى من حفلته الموسيقية، ومنذ أن ولج الساحة ازداد يقين هذا الشاب بأن يصبح موسيقيًا مشهورا في المغرب، فحبه للموسيقى كان حتميا لكونه ينتمي إلى عائلة موسيقية؛ فوالده عازف على آلة العود. بدأ بالغناء على مجموعة من الألوان الموسيقية، ليستقر في الأخير على لون مختلط خاص به يحاكي الموضة الجديدة في الموسيقى، "جاءت الفكرة من اقتراح صديقي حفيظ بوشعرة، الذي يعدّ من اﻷوائل الذين غنوا في هذا الشارع"، يقول أمين.

 
العزف على الآلات وترديد اﻷغاني في الشارع لم يكن سهلًا في البداية بالنسبة إلى هذا الشاب، فقد واجه مجموعة من الصعوبات وكانت نظرة الناس المستغربة لهذا الفن أولها. يحكي أمين كيف التقى بصديقه الذي أقنعه بولوج هذا الميدان نظرا إلى صوته الجميل وطريقته في العزف كما يقول، "بدأت في إبداع لون جديد، واشترينا اﻵلات الموسيقية ودخلنا ساحة ماريشال، وقبلنا بهذا التحدي ونحن لا نستجدي الناس أو نجمع الأموال، نحن فقط هنا ﻹمتاعهم وإيصال صوتنا إليهم".
 
هكذا هي حياة الموسيقيين الشباب في ساحة "ماريشال"، كلهم أمل في أن يلامسوا النجومية، كحال أمين، الذي ألف وجود جمهوره حوله وهو يعزف ويغني لهم وإن غاب يوما يسألون عن حاله وينتظرون عودته إلى مكانه المعتاد. يلتفّ حولهم الكبير والصغير ويرددون معهم اﻷغاني والتصفيقات تعلو المكان، البعض يعبر بالابتسامة والتصفيق وآخرون يتضامنون مع هؤلاء الشباب ببعض النقود أو بالثناء على ما يقومون به. هذه التشجيعات تدفع تحفّز أمين على الاستمرار. إنه يستمتع بما يفعل ويمتع الكبير والصغير من جمهوره، يجمع بين أغاني البوب والأغنية المغربية العصرية بمزيج يحظى باستحسان الجميع، وهو الذي يعتبر الغناء في الشارع كمدرسة يجب المرور عبرها، "الطلابْ ينكّدْ عليك والأنيماتورْ يفوّج عليك"، يقولها أمين وكله أمل في تغيير العقليات التي تنظر إليهم كأنهم يطلبون الصدقة من اﻵخرين.
 
موسيقى الشارع التي يعتبرها هؤلاء الشباب كنوع عصري للحلقة التقليدية التي تعرفها مدن كمراكش ومكناس، يثابرون في التعريف بها والاستمرار في صمودها أمام أنواع الفن العصري في المغرب. إحساس يتبادلونه مع الجمهور كل مساء في ساحة "ماريشال" عدا يوم الأحد كما يحكي أمين أنهم عانوا قبل ثلاث سنوات عندما بدأت هذه الظاهرة في المغرب، ليتغير الوضع بعد ذلك وأصبحت السلطة تحميهم وتؤمّن حفلاتهم.
 

عادة ما كانت تصل مقاطع
عادة ما كانت تصل مقاطع "الراي" و"الفيزيون" و"الجاز" و"البوب" إلى الجمهور عبر أشرطة مسجلة، أما الآن فأصبحت تلامس آذانهم مباشرة في فضاء الساحات الرحب 
 

الجمهور، بصغاره وكباره، يعجب بما يقدمه هؤلاء الشباب. استفسرنا أحدهم، محمد، (24 سنة) الذي قدم إلى الدار البيضاء، ووجد نفسه أمام الاختيار بين مهرجان للموسيقى يقام كل فصل صيف في الساحة وجانب آخر من الفرجة الشبابية التي تقدمها هذه الفرق في ساحة "ماريشال"، قال محمد إنه معجب بهذا الفن الذي لفت نظره، ايمانا منه بتشجيع المواهب الصاعدة وأنه لم يندم على تخصيص جزء من وقته للإنصات إلى هذا الفنان الذي يغني في هذا الركن من ساحة ماريشال. منظر أحزنه هو عندما رأى الشاب عند نهاية الحفل بدأ بالالتفاف على الجمهور لجمع بعض الأموال، مؤكدا أنهم يستحقون الكثير.
 
تتصاعد التصفيقات من الجمهور عندما ينتهي العازفون من مقطع ما، ويدعونهم إلى عزف المزيد، ما يؤكد نجاح هذا الفن وتغلغله في المشهد الحضري لمدينة الدار البيضاء. وقد عرف المغرب ظهور هذا الفن الجديد الذي تمارس طقوسه في الشارع على غرار دول عربية مجاورة كتونس، التي استلهمت الفكرة من الدول الغربية التي أصبح فيها هذا الفن معتادا.

 
وغير بعيد عن فرقة أمين، يتقرب مروان (27 سنة) من جمهوره عبر فن السيرك ورفقته زوجته التي "تلعب بالنار"، كما يقول. فبعد اللقاء بها بشهور تزوجا وعاهدا بعضهما على الاستمرار في تقديم هذه اللوحات وتقريبها إلى الجمهور في الفضاءات المفتوحة. هذا الزوج، بقَصّتَي شعريهما اللتين تحاكيان الثقافة الغربية وطريقة كلامهما التي يطعمانها بكلمات بالفرنسية، يقدم عروضه يوميا في الساحة. يقول مروان "أعشقالسيرك، وقد جاءت الفكرة من أول ما رأيتُ حول هذا الفن في يوتيوب، خاصة في الدول اﻷوربية، وفكرت في أن أمارس فن الشارع في الدار البيضاء لتقريب الناس من هذا الفن ﻷن عموم المغاربة لا يقدرون على أداء تذكرة السيرك.. فأنا عندما كنت صغيرا لم أدخل يوما قاعة سيرك، إذ كانت أدنى تذاكرها تصل إلى 150 درهما، عندما كبرت درست السيرك واحترفته".. "راه حنى فنانة ماشي طلاّبة، وكنلعبو فالزنقة على ود الناس اللي ما عندهومش"، تستدرك زوجته..  هذه هي الرسالة التي أراد مروان ورفيقته في الفن والحياة إيصالها، بعد مجموعة من المشاكل التي واجهته وهو يؤدي هذه اللوحات الفنية أمام الناس. ولم يفوت الفرصة عندما شكر كل من ساهم معهما في هذا التطور الذي أصبح يشهده الفن، وهو الذي صنع هذه الحياة الفنية التي يهديها للناس كل مساء وهو متحمس لتنظيم ملتقى سيجمعه مع كل شباب المغرب هنا في الدار البيضاء تحت اسم "أجي نتعلمو" قال إنه سيكون فرصة كبيرة للتعارف أكثر بينهم وبين باقي شباب المغرب المهووسين بفن الشارع. يحب هذا الشاب ما يقدمه للجمهور، مؤكدا أنه سيواصل رفقة زوجته تقديم عروضهما في الساحة حتى لو غاب الجمهور. 
"فن الشارع"، الذي لا يعترف بالقيود، هو نتيجة لتفاقم زخم وصخب الحياة اليومية للناس فباتوا في حاجة إلى من يروح عليهم ويرسم على وجوههم ابتسامة تنسيهم عبوس الحياة، ليساهم هذا الجيل في تقريب الموسيقى وكسر الحواجز بين الجمهور. إذ في العادة كانت تصل مقاطع "الراي" و"الفيزيون" و"الجاز" و"البوب" إلى الجمهور عبر أشرطة مسجلة أما الآن فأصبحت تلامس آذانهم في فضاء رحب كساحة "ماريشال".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.