شعار قسم مدونات

موسيقى "الراب".. معلقات الجيل الجديد

Blogs-rap
لقد كبرنا ونحن نتغنى بالقصائد الشعرية الجاهلية، نتعجب من فصاحتها وبلاغتها، ونتساءل كيف لهم أن يتواصلوا بالشعر، أن يتحاوروا ويختلفوا ويؤرخوا بالشعر، ونحن أبناء اليوم يصعب علينا تقطيع بيت واحد وشرحه؟ ولا يبقى لنا من تلك القراءة والاطلاع إلا شيء من الأسى في صدورنا لأننا فرّطنا في موروث حضاري عظيم. تماما كما نتغنى بتاريخنا العتيق وانتصاراتنا، إنجازات الأمة الإسلامية في ذروتها الحضارية والثقافية، ثم تبدأ محاولاتنا العبثية لمحاكاة كل هذا أو إعادة الزمن إلى الوراء، فنفشل في ذلك فشلا ذريعا.. وتبدأ خطابات نظرية المؤامرة تدوي في كل مكان. 
 
رغم أن هذا التفكير يبدو في ظاهره تمسكا بالهوية والتاريخ، فإنه في العمق مجرد عقدة نفسية لم نتمكن بعد من التخلص منها، مجرد أعذار نختبئ وراءها لنداري عجزنا الكبير عن إيجاد أجوبة، عن إيجاد هوية متكاملة، عن الاعتراف بأن الماضي فات وانقضى، ونثبت من خلاله بأننا غير قادرين على تقبل الواقع والتأقلم معه والعودة لدفع عجلة تاريخنا إلى الأمام، فيحصل أن نحاول إرجاعها إلى الوراء عنوة، فنزداد هبوطا نحو الهاوية وسقوطا في سلم الأمم.
 
إلى الآن لا شيء مما قلته له علاقة بالعنوان، أو ربما هكذا تتخيلون، فشئنا أم أبينا، موسيقى "الراب" هي جزء من هوية هذا الجيل، هوية حقيقية، سواء اعتبرها البعض دخيلة أو مستوردة، لكنها هنا، نعيشها كل يوم ونشعر بها أكثر من كل تلك العناصر التي جعلناها جزءا من الهوية المطلقة التي تود كل طائفة إجبار الطائفة الأخرى على تقبلها والانتساب إليها، والتي فقدت مصداقيتها وسط التناحر الفكري والطائفي وعجز المؤسسات الدينية الحالية على العودة بالفكر الإسلامي إلى المستوى المطلوب ليوحد كل الأصوات والآراء والأطياف تحت لواء واحد، لكن موسيقى "الراب" -أو ربما هي الموسيقى والفن فقط باختصار- شئنا أم أبينا، تجمع هذا الجيل أكثر من أي شيء آخر، أكثر من الوطن والعرق والخبز.
 

لماذا موسيقى "الراب" خصيصا؟
هذا السؤال ذو أبعاد كثيرة، لماذا اخترت أنا هذه الموسيقى أولا؟ لأنها الموسيقى الأكثر انتشارا في أوساط الشباب حاليا، نرى الكثيرين ممن كانوا يملكون قنوات ترفيهية وكوميدية على اليوتوب يتجهون إلى "الراب"، الكثير من الشباب اليوم يطمح لكي يسجل أغنية "راب"، تنافس بين الأحياء، بين الشباب، ونقاشات مطولة بين المعجبين حول الأغاني والكلمات والأداء والكليبات.
  
سيبقى
سيبقى "الراب" فوضى جميلة ولوحة فنية تعبر عنا، عن آلامنا وأحلامنا، أفضل من أكثر القصائد جمالا وبلاغة
  

قد ينظر البعض إلى كل هذا على أنه زيغ وانحراف ومضيعة وقت، خاصة أن معظم روادها يكتسون طابع عصابات شوارع وجزء كبير من الأغاني لا يتكلم إلا حول المخدرات والبؤس وجميع أنواع الانحرافات الأخلاقية، لكن ماذا لو كانت هذه هي الحقيقة؟ لماذا نختار أن نغمض أعيننا عنها؟ وإن كانت هذه هي طريقتهم في التعبير؟ لمَ نحاول تكميم أفواههم؟ ففي نهاية المطاف الموسيقى لم تكن يوما السبب في الأزمة الاقتصادية أو التدهور الثقافي. صحيح أن إدمان هذه النقاشات والمتابعة الدائمة سيزجّ بك في حلقة مفرغة ومخدرة، تماما كإدمان مباريات كرة القدم أو فضائح الجرائد التافهة الخسيسة وأحاديث القيل والقال! ولكن أبعد من هذا أرى في موسيقى "الراب" وسيلة تعبير جديدة، يتكلم بها الجيل، يتواصلون بها، يرون أنفسهم في الكلمات، في اللحن وفي نبرة الصوت. على تردد واحد يبحثون عمن يعبر عنهم أكثر، تماما كما كان أجدادنا يحققون أنفسهم عبر الشعر والقصائد ويتنافسون فيها أيما تنافس. ثم لماذا يختار الشباب موسيقى "الراب" خصيصا؟ سواء كمان متابعا أو مغنيا. 

 
هنا وجب علينا أن نربط ظاهرة انتشار هذا النمط الموسيقي عندنا بأصوله وظروف ولادته أصلا، إذ برز في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات في أوساط السود في أمريكا ضمن ثقافة "الهيب هوب" كنوع من التعبير ضد العنصرية والظلم الاجتماعي الممارس عليهم من قبَل البيض، والآن يتبناها شبابنا للتعبير عن الظلم الاجتماعي، وغياب العدل وتسلط الحكومات وغيرها من المواضيع التي تؤرقهم وتعمّق إحساسهم بالقهر والألم، كما نلحظ أن تكاليف التسجيل والإنتاج منخفضة. وتعلم هذا الفن لا يحتاج إلى صوت جميل ولا إلى موهبة في غالب الأحيان مقارنة مع احتياج الأنماط الأخرى إلى مهارات متعددة في العديد من الآلات الموسيقية والصوت العذب، وهذه العناصر ساعدت كثيرا على انتشاره أيضا.
 
ومن جهة أخرى، فإن الإيقاع حديث وسريع وحيوي، يتلاءم أكثر مع نمط الحياة الحديث والحالة الشعورية التي يدخل فيها الإنسان مع عصر السرعة والتناقضات. كما أن موسيقى "الراب" تعني "الحرية" بطريقة أو بأخرى، تلك الحرية التامة التي يراها كاتب الكلمات في الصياغة، فبين الكلمات الدارجة في اللغة المحلية والعربية الفصحى والإنجليزية والفرنسية، وحتى كلمات مختلقة أحيانا أو أي لغة يمكنها أن تخطر على بالك، يمكن للفنان أن يصوغ كلمات أغنيته. قد يرى الكثيرون في هذا مجرد فوضى عارمة، أولئك الأكاديميون المثاليون المهووسون بعالم المثل الذي يعيشونه في خيالاتهم، لكنْ رغم أنوفهم سيبقى "الراب" فوضى جميلة ولوحة فنية تعبر عنا، عن آلامنا وأحلامنا أفضل من أكثر القصائد جمالا وبلاغة. وفي الأخير ما فائدة استخدام لغة موحدة إن كنا لا نستطيع التواصل بها؟ إن كنا لا نفهم بعضنا البعض باستخدامها؟ والحقيقة هي أننا نعيش الفوضى، ولا يمكن أن نعبر على الفوضى إلا بالفوضى.
 

مغني الراب هو شخص استطاع أن يتجاوز المواضيع المستهلكة التي لا تتعدى كونها وصفا لحياة البذخ التي يحلم بها الكثيرون أو قصة حزينة يقفون عند أطلالها،  إلى ما هو أكبر بكثير
مغني الراب هو شخص استطاع أن يتجاوز المواضيع المستهلكة التي لا تتعدى كونها وصفا لحياة البذخ التي يحلم بها الكثيرون أو قصة حزينة يقفون عند أطلالها،  إلى ما هو أكبر بكثير
  

مالذي يجعل "الراب" مميزا في نظري؟

كل ما سبق عناصر تدرس الموضوع بصفة عامة وشاملة وتشرح أسباب ظهور "الراب" وانتشاره، ولكنْ وجب أن نطرح سؤالا آخر: ما الذي جعلني أكتب مقالا حول "الراب" تحديدا؟ لماذا لم أختر نمطا فنيا آخر؟ أو أحد الأحداث التي ضخّمتها الصحافة مؤخرا في البلاد ضمن مخطط الدعاية المغرضة لنهاية السنة؟ 
 
في الحقيقة هو مغني "راب" واحد، بل لنفل "ظاهرة"، و بضع أغنيات، بل فلنقل تحف فنية. مثلما يعدّ التحرر من القافية والوزن وحتى من قيد اللغة الواحدة تسهيلا في نظر الكثيرين، فإنني أرى فيه تحديا كبيرا، كيف لك أن تجمع بين عبارات مختلفة بلغات مختلفة في قالب جميل ومعبر وغير مستهلك؟ وهذا ما فشل فيه الكثيرون.
 
هو شخص واحد من بين القلة الذين حطموا أسطورة الحكم المسبق الذي يطلقونه غالبا على رواد "الراب" عامة بأنهم شباب ضائعون عديمو المستوى، فكان طالبا جامعيا متحصلا على درجة الماستر في تخصص تقني، هو شخص استطاع أن يتجاوز كل تلك المواضيع المستهلكة التي لا تتعدى كونها تذمرا من الظروف أو وصفا لحياة البذخ التي يحلم بها الكثيرون أو قصة حزينة يقفون عند أطلالها إلى ما هو أكبر بكثير، إلى طرح قضايا وجودية، نفسية وسياسية وتاريخية في قالب جميل وبأسلوب عميق ومؤثر عن طريق الموسيقى.. فتجده يوظف في كلمات أغنياته قاموسا ثريا يتجاوز حدود "الراب" التقليدي، فمن قياس الزوايا في الرياضيات إلى الثقوب السوداء في أقاصي المجرّات.. هكذا اختار زكريا رحيم، المعروف بـ"ZEDK"، كلماته، وهذا ما أقدّره جدا وأعتبره فنا راقيا وإنجازا يستحق أن نشيد به.
 
وفي الأخير، أطرح سؤالا أخيرا بريئا: ماذا لو تصالحنا مع الفن بدل محاربته وتحريمه قطعا؟ ماذا لو شجعنا الفنون ووجّهناها في سياق محافظ وإسلامي وبنّاء؟ هل كانت هزيمتنا الحضارية والثقافية والإعلامية لتكون بهذا العمق؟ قد أصيب وقد أخطئ، ولكنْ أريد أن ألفت انتباهكم إلى أننا نرى العالم بعيون مختلفة، لأننا وُلدنا في مزيج زماني ومكاني مختلف. وكما يقول زكريا في أغنيته الأخيرة "ممكن نملك نفس الأعين ولكنْ ليس نفس النظرة".. فكان لزاما علينا أن نتقبل اختلاف وجهات النظر كبداية، إن أردنا نجد المخرج والحقيقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.