إلى الآن لا شيء مما قلته له علاقة بالعنوان، أو ربما هكذا تتخيلون، فشئنا أم أبينا، موسيقى "الراب" هي جزء من هوية هذا الجيل، هوية حقيقية، سواء اعتبرها البعض دخيلة أو مستوردة، لكنها هنا، نعيشها كل يوم ونشعر بها أكثر من كل تلك العناصر التي جعلناها جزءا من الهوية المطلقة التي تود كل طائفة إجبار الطائفة الأخرى على تقبلها والانتساب إليها، والتي فقدت مصداقيتها وسط التناحر الفكري والطائفي وعجز المؤسسات الدينية الحالية على العودة بالفكر الإسلامي إلى المستوى المطلوب ليوحد كل الأصوات والآراء والأطياف تحت لواء واحد، لكن موسيقى "الراب" -أو ربما هي الموسيقى والفن فقط باختصار- شئنا أم أبينا، تجمع هذا الجيل أكثر من أي شيء آخر، أكثر من الوطن والعرق والخبز.
قد ينظر البعض إلى كل هذا على أنه زيغ وانحراف ومضيعة وقت، خاصة أن معظم روادها يكتسون طابع عصابات شوارع وجزء كبير من الأغاني لا يتكلم إلا حول المخدرات والبؤس وجميع أنواع الانحرافات الأخلاقية، لكن ماذا لو كانت هذه هي الحقيقة؟ لماذا نختار أن نغمض أعيننا عنها؟ وإن كانت هذه هي طريقتهم في التعبير؟ لمَ نحاول تكميم أفواههم؟ ففي نهاية المطاف الموسيقى لم تكن يوما السبب في الأزمة الاقتصادية أو التدهور الثقافي. صحيح أن إدمان هذه النقاشات والمتابعة الدائمة سيزجّ بك في حلقة مفرغة ومخدرة، تماما كإدمان مباريات كرة القدم أو فضائح الجرائد التافهة الخسيسة وأحاديث القيل والقال! ولكن أبعد من هذا أرى في موسيقى "الراب" وسيلة تعبير جديدة، يتكلم بها الجيل، يتواصلون بها، يرون أنفسهم في الكلمات، في اللحن وفي نبرة الصوت. على تردد واحد يبحثون عمن يعبر عنهم أكثر، تماما كما كان أجدادنا يحققون أنفسهم عبر الشعر والقصائد ويتنافسون فيها أيما تنافس. ثم لماذا يختار الشباب موسيقى "الراب" خصيصا؟ سواء كمان متابعا أو مغنيا.
هنا وجب علينا أن نربط ظاهرة انتشار هذا النمط الموسيقي عندنا بأصوله وظروف ولادته أصلا، إذ برز في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات في أوساط السود في أمريكا ضمن ثقافة "الهيب هوب" كنوع من التعبير ضد العنصرية والظلم الاجتماعي الممارس عليهم من قبَل البيض، والآن يتبناها شبابنا للتعبير عن الظلم الاجتماعي، وغياب العدل وتسلط الحكومات وغيرها من المواضيع التي تؤرقهم وتعمّق إحساسهم بالقهر والألم، كما نلحظ أن تكاليف التسجيل والإنتاج منخفضة. وتعلم هذا الفن لا يحتاج إلى صوت جميل ولا إلى موهبة في غالب الأحيان مقارنة مع احتياج الأنماط الأخرى إلى مهارات متعددة في العديد من الآلات الموسيقية والصوت العذب، وهذه العناصر ساعدت كثيرا على انتشاره أيضا.
مالذي يجعل "الراب" مميزا في نظري؟
هو شخص واحد من بين القلة الذين حطموا أسطورة الحكم المسبق الذي يطلقونه غالبا على رواد "الراب" عامة بأنهم شباب ضائعون عديمو المستوى، فكان طالبا جامعيا متحصلا على درجة الماستر في تخصص تقني، هو شخص استطاع أن يتجاوز كل تلك المواضيع المستهلكة التي لا تتعدى كونها تذمرا من الظروف أو وصفا لحياة البذخ التي يحلم بها الكثيرون أو قصة حزينة يقفون عند أطلالها إلى ما هو أكبر بكثير، إلى طرح قضايا وجودية، نفسية وسياسية وتاريخية في قالب جميل وبأسلوب عميق ومؤثر عن طريق الموسيقى.. فتجده يوظف في كلمات أغنياته قاموسا ثريا يتجاوز حدود "الراب" التقليدي، فمن قياس الزوايا في الرياضيات إلى الثقوب السوداء في أقاصي المجرّات.. هكذا اختار زكريا رحيم، المعروف بـ"ZEDK"، كلماته، وهذا ما أقدّره جدا وأعتبره فنا راقيا وإنجازا يستحق أن نشيد به.
وفي الأخير، أطرح سؤالا أخيرا بريئا: ماذا لو تصالحنا مع الفن بدل محاربته وتحريمه قطعا؟ ماذا لو شجعنا الفنون ووجّهناها في سياق محافظ وإسلامي وبنّاء؟ هل كانت هزيمتنا الحضارية والثقافية والإعلامية لتكون بهذا العمق؟ قد أصيب وقد أخطئ، ولكنْ أريد أن ألفت انتباهكم إلى أننا نرى العالم بعيون مختلفة، لأننا وُلدنا في مزيج زماني ومكاني مختلف. وكما يقول زكريا في أغنيته الأخيرة "ممكن نملك نفس الأعين ولكنْ ليس نفس النظرة".. فكان لزاما علينا أن نتقبل اختلاف وجهات النظر كبداية، إن أردنا نجد المخرج والحقيقة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.