شعار قسم مدونات

نحن والفيل في الغرفة الإيرانية المظلمة

Blogs- iran
في مثنوي جلال الدين الرومي وهو كتاب أثير عند الإيرانيين، ويندر ما تجد سياسيا إيرانيا لا يحفظ من شعره ويردده ويستحضره، توجد قصة بالغة الدلالة حول فيل في غرفة مظلمة، تقاطر الناس لرؤيته يقول الرومي: كان الفيل في حجرة مظلمة، وكان الهنود قد عرضوه فيها. فردا فردا دخل الناس إلى تلك الحجرة المظلمة لمشاهدته، ولما كانت رؤيته بالعين غير ممكنة، أخذوا يتحسسونه بأيديهم في تلك الظلمة.
  

لامست كف أحدهم خرطومه، فقال: شكله كالأنبوب، وتحسست كف آخر أذنه، فبدا له مروحة. وظن من تحسس ساقه أنه أدرك شكل الفيل فقال: إنه كالعمود. أما ذلك الذي تحسس ظهر الفيل فحسبه أريكة. وهكذا فالفيل كان حسب كل جزء وصلت إليه اليد وتحسسته في الظلام. واختلفت الأقوال  باختلاف وجهات النظر، فهو عند أحدهم كالدال، وعند آخر كالألف، ولو كانت في يد كل واحد منهم شمعة لجاءت الحقيقة مكان الحس، لأن عين الحس مثل كف اليد، وليس لكف واحدة قدرة على الإحاطة بالكل.

 
في علاقتنا مع إيران ودراستنا لها نستخدم يد الحس في ظلمة العلاقات، لذلك وفي معظم الحالات لا يكون توصيفنا للحالة الإيرانية دقيقا، فنعجز عن فهم ما يجري، ونضع الأمنية مكان الواقع، والعاطفة مكان المعرفة. وليس غريبا أن تنتشر مفردات لا تفسر معرفيا في توصيف وفهم الحالة الإيرانية مثل "المشروع المجوسي الصفوي"، في "تفسير عاجز" للمشروع الإيراني الجيوسياسي بالمنطقة، و"دولة الملالي" في "تفسير قاصر" لبنية النظام وصناعة القرار في إيران.. وهي في المجمل تفسيرات مريحة لأصحابها لا تكلف عقولهم عناء البحث والقراءة وفهم التعقيدات وملاحقة التطورات.

  

تصلح حالة الاحتجاج الأخيرة التي شهدتها إيران، ومقاربتها معرفيا وإعلاميا في العالم العربي، كحالة دراسية لإشكالية العلاقة مع إيران وفهمها.. لقد كانت المقاربة في المجمل عاطفية ساذجة، فيها الكثير من الأمنيات والقليل من المعرفة. ومارس العرب عموماً عملية "تحسيس" على الفيل الإيراني، وخرج كل واحد منهم بنتيجة ما أحسه.

 

احتج آخرون بالمظاهرات الحاشدة المؤيدة للنظام ليقولوا إنه لا يوجد مشكلة في إيران، ونسوا أن الشارع كان على الدوام ميدان النظام، وهو أبرع من سواه في الحشد فيه
احتج آخرون بالمظاهرات الحاشدة المؤيدة للنظام ليقولوا إنه لا يوجد مشكلة في إيران، ونسوا أن الشارع كان على الدوام ميدان النظام، وهو أبرع من سواه في الحشد فيه
 

قال فريق إن الاحتجاجات تحمل تحسرا على أيام الشاه وشوقاً لها! واستندوا إلى شعار أطلق بهذا الشأن. حسنا دعونا نعود إلى المعطيات الأولى المتعلقة بـ"الفئة العمرية" للمتظاهرين، لنجد أنها فئة ولدت وتربت في عهد الجمهورية الإسلامية ولم تشهد عهد الشاه. وبالعودة إلى المؤشرات الأولية بشأن الملامح الاجتماعية للمحتجين فهم من طبقات المجتمع الدنيا، المهمشة والفقيرة، وتشير دلائل عدة إلى أنهم من تيار أحمدي نجاد. فأين الشاه من هكذا تركيبة؟

 

في رواية عربية أخرى: هذه الاحتجاجات مؤشر على سقوط شرعية نظام الحكم، لكن ماذا إن عرفنا أنها بدأت مدعومة من جناح ورجال دين داخل النظام، هم من الأصوليين المتحمسين لشعارات الثورة، مثل آية الله علم الهدى خطيب جمعة مشهد ذي التوجهات الأصولية الواحدة. وإذا كنا لا نستطيع أن نسقط الانتخاب كمؤشر على شرعية الحكم، فلا يمكن تناسي أن آخر انتخابات في إيران جرت قبل أشهر قليلة وبنسبة تصويت وصلت إلى 73%، ولو تغافلنا عن 23.54 مليون صوت ناخب صوتوا لروحاني لأنهم من مشارب عدة، فلا يمكن التغافل عما يقرب من 16 مليون صوت ذهبت لرئيسي، وهذه الأصوات جاءت من فئة ذات ملامح سياسة متشابهة، وتؤمن بصورة كاملة بشرعية النظام، وهو ما تشاركه فيه فئة كبيرة ممن صوتت لروحاني. 

 

وكان لشعار "لا غزة ولا لبنان روحي فداء إيران" أن يفعل فعله في المشاعر العربية، المكلومة بفعل التدخل الإيراني في سوريا والعراق واليمن، والحقيقة أن إدانة الفعل والدور الإيراني في سوريا هي مسألة أخلاقية، لكنها لا تأخذ هذه المسحة الأخلاقية عند جل الناقدين لها داخل إيران، بقدر ما يمكن النظر إليها كنقطة نقاش داخلية تتعلق بأولوية الداخل الإيراني على الخارج، وهي ليست جديدة بل نشأت مع فترة إعادة البناء التي قادها هاشمي رفسنجاني عقب انتهاء الحرب العراقية الإيرانية. وترافقها على الدوام المقولة الإيرانية الشهيرة: "المصباح الذي يحتاجه البيت يحرم على الجامع". وإذا كانت المعارضة جذرية فكيف يمكن تفسير تصاعد شعبية قائد فيلق القدس قاسم سلیماني ليكون الشخصية الأكثر شعبية في إيران، وهو له ما له من دور في سوريا.

  

على الجانب الآخر بدا "المحبون" لإيران كـ"مبغضيها" في عجزهم عن قراءة الصورة، فهذه الاحتجاجات سببها الصهيونية والإمبريالية العالمية، ويبدو هذا التفسير مضحكا إذا ما علمنا وجود معضلات حقيقية تقف خلف حالة الاحتجاج ولا ينكرها الساسة الإيرانيون أنفسهم، بل يقرون بوجاهتها، فوجود 13 مليون فقير يرزحون تحت خط الفقر و25-30 مليون إيراني يعانون فقرا نسبيا فضلا عن بطالة تصل إلى 13 % و تضخم يصل إلى 9% هي معضلات حقيقية توفر أرضية صلبة للاحتجاج،  وحتى خامنئي نفسه الذي لم يغير موقفه وأدبياته التي تتهم الغرب وأمريكا ودولا أخرى لم ينكر على الناس وجاهة مطالبهم.

 

المجتمع الإيراني راغب في التغيير، وهو التغيير الذي سيفرض حضوره آجلا أم عاجلا... لكن النتيجة ستؤثر على إيران ذاتها، ولن تأتي بالضرورة في مصلحة
المجتمع الإيراني راغب في التغيير، وهو التغيير الذي سيفرض حضوره آجلا أم عاجلا… لكن النتيجة ستؤثر على إيران ذاتها، ولن تأتي بالضرورة في مصلحة "الحالمين" بسقوط النظام
 

واحتج آخرون بالمظاهرات الحاشدة المؤيدة للنظام ليقولوا بأنه لا يوجد مشكلة في إيران، ونسوا أن الشارع كان على الدوام ميدان النظام، وهو أبرع من سواه في الحشد فيه، وأن تلك الحشود لا يمكن اعتبارها دليلا قاطعا على انتفاء المشكلة.

  

وفيما شعر بعضنا بخيبة أمل لأن النظام الإيراني لم يسقط، وشعر بعضنا الآخر بالرضى لأن حالة الاحتجاج خمدت، انشغلت الساحة الإيرانية بنقاش غير مسبوق، بشأن مشكلات إيران، وكان من الواضح أن حالة الإنكار غادرت مكانها كلازمة لحديث المسؤولين في إيران، ولعل أكثرها دلاله ما قاله حسن روحاني: إن ما أراه وما لا يريد الإعلام وجهات أخرى أن تراه، هو هذه النقطة الجوهرية التي تظهرها الأحداث الأخيرة في إيران، وإذا لم نستطيع رؤية هذه المسائل الأساسية لا نستطيع الوصول إلى أمن واستقرار طويل الأمد ومؤثر في هذا البلد.. المشكلة التي نواجهها اليوم، هي المسافة بيننا وبين الجيل الشاب في إيران، وهذا أساسي، إن بين ما نراه نحن وبين ما يراه شبابنا لحياتهم مختلف.. نظرتهم للحياة والعالم تختلف عن نظرتنا.. نحن نريد لجيلين بعدنا أن يعيشوا بطريقتنا وهذا لا يجوز، ولا نستطيع أن نرسم لهم مسار حياتهم، فهذا الجيل الشاب لديه قناعة مفادها: أنا لدي فهم لشكل الحياة الذي أريد وعليكم أن تصغوا لي… إن ما يريدونه أن نصغي لهم.

  

لعل جوهر هذه القراءة ينسجم بصورة كبيرة مع حقيقة أن المجتمع الإيراني راغب في التغيير، وهو التغيير الذي سيفرض حضوره آجلا أم عاجلا… لكن النتيجة ستؤثر على إيران ذاتها، في مجتمع حي متجدد، ولن تأتي بالضرورة في مصلحة "الحالمين" بسقوط النظام، وربما أيضا لن تكون في مصلحة الظانين أن "ولاية الفقيه" غير قابلة للزوال.. متناسين مؤشرات كثيرة تقول إنها أدت غايتها ووصلت إلى نهايتها.

 

وعودة إلى الفيل والغرفة المظلمة، نحتاج في العالم العربي إلى معرفة بأدوات مختلفة حول إيران، وباحثين يتقنون مهارات البحث، يتقنون الفارسية، وعلى الأقل يعرفون التركيبة السياسية والسكانية والاجتماعية والثقافية للبلد الجار الذي أشغلنا وشاغلنا. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.