شعار قسم مدونات

رسالة من "سوار"

blogs رسالة سوار

لم يدر بخلدي في اللحظة التي تلقيت فيها تلك الحروف، المكتوبة على مهل، وبخط طفولي متعرج، وببضع أخطاء إملائية لبنت الثامنة من العمر، أن تكون رحلتي هذه الأطول في تاريخ رحلاتي، رغم أن الطائرة تحملني لساعتين فقط، إلى وجهة لم أكن موليها من قبل، لكن حروف صغيرتي، أوقفت الزمن، أمام باب الطائرة، وكدت أصل مرحلة اللاصعود، لكن سبق النداء الأخير، عذل رسالتك يا سوار.

 

أنا الآن في اليوم الستين، وحسب توقيت سوار، فإنه اليوم الخامس تحت الصفر، وقد آثرت أن تُذكّرني فيه بطريقتها الدائمة في عد الأوقات العكسية، أي إن المتبقي خمسة أيام فقط لهذا اللقاء المرتقب، وقد باغتتني رسالتها، والتي وصلت على ورقة دفتر اللغة العربية، ذي الستين صفحة، ذلك الدفتر الذي اشتريته مع مجموعة من القرطاسية المطلوبة لثلاث فتيات يلتحقن بدراستهن بداية العام الدراسي الحالي، باغتتني في آخر أيامي حنينا وأصعبها، وتعلمون أن آخر الأيام التي تسبق اللقاء، أصعب من كل العام المنقضي في انتظاره. 

 

تبدأ سوار كلماتها الغضة، بلفظة "بابا"، فتعود لتنتشلني من صفتي الرسمية التي أستقل بها هذه الطائرة، متجها نحو جمهور جديد، لأعرض أحد أفلامي، ثم تُمعن في إعادتي إلى حيث أنتمي، قبل الأفلام والمخرج، وقبل الإعلام والمتحدث، فتكتب "حبيبي"، تتبعها بدعوى البقاء "الله يخليلي إياك"، وأما يقيني بهذا الدعاء، فأنه "سيخليني" ما دام دعاؤك قائم بذلك.

 

أبناؤنا يذكروننا على الدوام بأنهم هنا، ويدعوننا للالتفات لهم بذوق وجمال، قبل أن يصبح الالتفات بغصة وقلق. ومن جهة أخرى، يخففون علينا وقع الأيام العصيبة، فيثبتوننا

ثم تفصح في كتابتها عن أمنيتها التي دفعتها لكتابة الرسالة، "تظل عندنا طول الحياة"، إيه يا صغيرتي، طول الحياة هذا، هو الذي يدفعنا لهذا السفر، مصحوبا بطول الأمل، وكثيرٍ كثيرٍ من العمل. 

 

ثم تجد الصغيرة أعذارا لي، في مواساة مقلوبة المعاني، ومعكوسة الحال، وقد عهدنا على الكبير يواسي صغيره، أم أنني أنا صغيرك يا صغيرتي مهما سبقتك في الوجود، ومهما ظهر للعيان، فَحُقّ لك أن تسوقي لي الأعذار، وأن تبرري لي الغياب، فتربطينه كما خطت رسالتك لي، بالبحث عن الرزق لتأمين الحياة، فأستحق كما تقولين وصف "أحلى أب بكل العالم". 

 

ثم تعودين يا سوار، فتحكمين التفافك على معصمي، مؤكدة على وجهة نظرك باستدراك شفاف، ومعانٍ غير قابلة للتجاوز، فأنت تشتاقين لي كل ما غبت، وقد "نورت حياتك" وآفة النور الغياب. ثم تُغدقين علي بوصفٍ مُلهِمٍ ومُلهَم، فأغدو في عرفك "كالشجرة، حنونة ولطيفة وكريمة ومحبوبة"، وما دريت يا سوار، أنني خالفت الشجر في البقاء والثبات، وغدوت رحالاً مسافرا. 

 

وتختمين رسالتك بوصفٍ نادرٍ، يصعد بروحي إلى عوالم جديدة، ومساحات غير متوقعة، فأكون في خيالك الخصيب، "كألوان قوس قزح"، وهل يقوم قوس قزح، الفاتن، إلا بألوانه؟ فغدوت لُبّ تكوينه، وأصل خلقته. ثم تذيّلين صفحة الدفتر، برسم للشجرة وقوس قزح وقلوب الحب، فتكون الشجرة منبع قوس قزح، والفاصل بينهما قلب حب، وإن كان هذا في عرف العالَمين محال، إلا أنه في عرف الحب والمحبين، قائم ودائم.

 

"بابا حبيبي، الله يخليك، بحبك، بتمنى إنك تضل عندنا طول الحياة. بس إنت بتسافر عشانك مضطر كثير، وبدك تكسب مصاري عشان تشتريلنا الأكل والألعاب والماء، عشان هيك، إنت بتكون أحسن أب بكل العالم. كل ما تغيب عنا بشتاقلك، إنت نورت حياتي، إنت زي الشجرة، حنونة، والمحبوبة واللطيفة والكريمة، وأنت زي ألوان قوس قزح".

 

تصل مثل هذه الرسالة، الكثير من الآباء، في خضم الانشغال المُغرق في الحياة، في حين يصر أبناؤنا على دق ناقوس التنبيه، وإلقاء خشبة النجاة، ومد يد الغوث. فيبعثون بحروفهم الرقيقة، كرقة أوراقهم المكتوبة، وتشبيهاتهم الغضة، محاولين اختراق السد الناشئ أمامهم من أثقال الحياة ومحاولات العيش الكريم، فهم يذكروننا على الدوام بأنهم هنا، ويدعوننا للالتفات لهم بذوق وجمال، قبل أن يصبح الالتفات بغصة وقلق. ومن جهة أخرى، يخففون علينا وقع الأيام العصيبة، فيثبتوننا ويذكروننا، أن كل هذا ما كان ليكون لولاهم، فتصل الرسالة يا سوار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.