شعار قسم مدونات

بين الحياة والموت!

blogs قارب نجاة

سار إسلام تحت زخات المطر في الشوارع والطرقات، استرجع الذكريات كلها، لا يشعر تحت المطر إلا برعشة قلبه وبكائه.. الدمع في عينيه لا يهدأُ ولا يسكن. بيته، ذاكرته، أهل الدار.. كل شيء بات تحت التراب، لم يتبق شيء. مشى متثاقلا في الطرقات، وصل إلى المدرسة، صديقُه يجلس على الأرض، جلَس إلى جانبه، بكى إسلام وبكى صديقُه، بكاء كثيرا. قال له: لم يتبق لي سواك في هذه الدنيا، لا تتركني، لا تتخلى عني.

 
نظر إلى أرجاء المدرسة، هزّت كيانَه الجدران، الكتبُ، اللوحاتُ والصور.. تأمل السماء، ناجى ربّ السماء: يا ربّ، ارحم ضعفَ قلبَينا ونفسَينا، ورُوحَينا. قام صديقُه مكفكفا دموعَه بكمِّ قميصه، أوقد النارَ، جلسا حولَها. تحدّثا حتى لاح أولّ خيط من الضياء. جمعا قُواهما، أخذا معهما كلَّ ما يستطيعان حملَه، وبضع نقود في الجيب، وأوراقا ثبوتية. خرج إسلام إلى الخارج، تلمّس طريقه في العتمة بيديه، سلّم على الأرواح التي فقدها في آخر غارة جوية أنهت الحياة في هذه المدينة.

أبقى مفتاحَ الدار في حلقة من المطاط الأسود، طوق بها عنقه، سيحتفظ به للذكرى. جزء صغير من البيت معه، كان يعلم أنه لا إمكانيةَ للعودة أبدا، ولا أمل في رؤية المدينة مجددا، لكنها ستبقى في ذاكرته إلى الأبد. مشيا إلى الميناء، وصلا قبل الموعد المحدد بنصف ساعة. صاحبُ القاربِ يصرخُ بأعلى صوتِه مناديا أسماء الركاب، يقترب صاحب الاسم، يصعد إلى القارب. جاء دورهُما، سمعا اسمَيهما.. القاربُ صغير، الرّكاب كثيرون، لا متَّسعَ لراكب إضافي، حلَّ صاحبُ المركبِ عُقدةَ الحبل، ركبَ رجلٌ آخر، قاد القارب.
 

المركب يبتعدُ، إسلام يُسرح النظر في الأفق، ينظر باتجاه المدينة، كمن ينظر إلى شخص يحادثه، أكانت البلاد تعاتبه على رحيله؟ أكان يرجوها أن تسامحه، أم أنها هي التي تطلب منه صفحا

خفق قلب إسلام خفقانا سريعا، شعر بانقباض روحه، بعد ثلاث ساعات تقريبا من مغادرة القارب، كان كل شيء ساكنا، فنام ركاب القارب.. هدأت الأمواج، سكن الليل، تأمل المدينة، والميناء، والأضواء، كانت تماما كما اللوحة التي رسمها والده، كأنه حين رسمها كان واقفا في عرض البحر موقفه هذا، هنا تماما، هنا بالتحديد، ينظر إلى المدينة بأنوارها، وجمالها، وهدوئها. شعر أن روحه تقف على الميناء معاتبة، خطر له خاطر؛ أن يقذف بنفسه في البحر، يعود أدراجه، لكنه لم يكن متأكدا من قدرته على السباحة. شعر بيد تحيط بكتفه لتعيدَه إلى الواقع، رفعَ نظرَه، صديقه يقف إلى جانبِه، تعلقت أنظارهما هناك حيث يقبع الوطن.

المركب يبتعد، إسلام يسرح النظر في الأفق، ينظر باتجاه المدينة، كمَن ينظر إلى شخص يحادثه، أكانت البلاد تعاتبه على رحيله؟ أكان يرجوها أن تسامحه، أم أنها هي التي تطلبُ منه صفحَاً، يتسآل في نفسِه: "أتكون أيامنا القادمةُ أجمل؟!"

ابتعد المركبُ كثيرا حتى غابتِ المدينةُ عنِ الأنظار، حاول طمأنة نفسهِ بسطح يابسة، أو بصخرة تطفو على سطحِ البحر، لم يكن على سطحه سوى الأمواج البيضاء المختلفة الأحجام، ينظر إليها عن كثب، يتخيَّلها سُفنا ترافقُه إلى برِ أمان، كالغريق الذي يتعلق بقشة.

لم يكن يعرف في أي الأيام هم؟ وإلى متى؟ وكم لبثوا على متن هذا القارب الذي أصبح يمثل لهم السجن في حد ذاته؟ لم يعد يفرق بين النور والظلام، كيف للصباحِ أن يبدو كئيبا ومظلما إلى هذا الحد؟! التعب يبدو على الوجوه الشاحبة، كأنه انهزام جماعي أمام البحر وأحلامهم.. ما أغرب الأشياء التي تحصل بين الحياة والموت!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.