شعار قسم مدونات

أنا من هناك

مدونات - فلسطين
كان السؤال عارضا، لكن الإجابة لم تأخذ السياق العارض، جال السؤال بخاطري لزمن، ولم أكن أدري أن الإجابة قد تحمل أكثر من أن تكتب في تدوينة، أو أن تسطرها كتب، كانت الإجابة هما يسكَب أو دما ينزف، سطرتها بعبرات صديقي الذي سألته، كيفَ ترى فلسطين؟ فكانت إجابته: ثمة وجع أخرق، وجع يعتريني إذا ما ذكر أسمها في قناة أو قرأت عنها في صحيفة، ثمة نزيف .. ثمة سلب لكامل الإرادة وضعف كامل يتخلل الروح ويستشري في البدن، ثمة سؤال دائم يرددونه هنا .. من أين أنت؟
 
لأجيبهم أنا من هناك، أنا من هنا .. ولست هنا ولست هناك كما قال درويش، تخونني الكلمات وتخون عيني كذلك، أنا لست من هنا ولن أكون يوما لكنني بلا وطن، سميت هنا لاجئا لأنه لم يعد لي وطن، لم تعد فلسطين جنسية كما كانت، على الأوراق الرسمية على الأقل، لكنها تمثل هويتي وأرضي ووطني الذي سأعود إليه وإن طال الموعد.
 
على ذكر الموعد؛ أتعلم؟ نحن في انتظار الميعاد من سبعة عقود، للدرجة التي صار فيها الميعاد أمرا مسلما به، يولد الصبي فيعرف أنه ولد لينتظر، ويموت الرجل ليترك لبنيه إرثا مفاده أن ينتظروا، أصابنا من الملل ما أصابنا، لكننا ننتظر، ننتظر الموعد على أحر من الجمر، لا تعنيني الكيفية ولا الشكل الذي سيحين فيه الموعد، لكن الانتظار أمر حتمي، أنتظر اليوم الذي سأرى فيه لأبناء وطني هوية محددة، ولهجة متقنة، وحكما مستقلا، كل ما أخشاه أن يطول انتظارنا ويطال يوم القيامة.
 
فلسطين ليست مقام سفر، وليست كأي أرض، هي أرض قدس الإله سرها وعظم مسجدها، وبارك حولَها، أولى القبلتين ومهد عيسى ومسرى النبي، والله لئن أطال الله في عمري، ورأيت الأقصى يدخله المسلمون كما لم أشهده في عمري لأسجدن في باحة المسجد سجدة لا أقوم على إثرها .. سأكتب للأجيال أن هذه الأرض رويت بدماء أجيال دافعوا عنها، منا ومن أولائك الذين سبقونا، حررها صلاح الدين يوما، فلا تفرطوا فيها، لا تبيعوا أرضا ولا تبرحوا المسجد فهو إرث الله إليكم، ربينا أن الأرض جزء من ديننا وعقيدتنا، سيأتي المحتل ثانية، لكنني وإن استقبلته، سأموت دون أن يمس الأرض دنس ما يمتطيها.
 

تأسرني أنوار القدس الخافتة على أنوار باريس، أنتظر بلهفة جلسة على التل القريب؛ مثلما كان يحكيلي جدي رفقة صحبه،
تأسرني أنوار القدس الخافتة على أنوار باريس، أنتظر بلهفة جلسة على التل القريب؛ مثلما كان يحكيلي جدي رفقة صحبه، "هناك فلسطين، ومعها رُوحي"
 

هل تعلم؟ لو أستطاعت الأرض أن تثور لثارت، دعك من وهننا نحن وثقل خيباتنا، هي ستثور يوما إن خمدت حناجرنا، أعلم أنه ليس لليهود مسكن في هذه الأرض، وأنها ستؤوب يوما إلينا، وطالما كان فينا عهد لمن هم مثل عهد، فلن يحول دون النصر حائل، ومهما تأخرنا سنعود، سنعود إليها كما يؤوب الطفل إلى ضلع أمه بعد تيه.
 
أتعرف، أشتاق لحكايا جدي عن القدس، السير في أزقة المدينة وارتشاف عبير الزهر أو الإختباء خلف أغصان الزيتون، التسابق مع الصبية في من يصل أولا، الجميع سيصل، إلا أن شرف لقيا الأقصى والسير في حرمه المقدس يستحق الركض وربما أن تسقط وتقف، يستحق أن تُفتت بلاد وأن تتلاشى أبحر، يستحق أن تحمل بندقية أو تقذف حجرا في رأس محتل، سماع أذان المسجد الأقصى أعذب من أي أذان، والسيرُ في ظل كنيسة القيامة وسط ترانيم المسيحيين لها رونقها، القدس ليست مجرد أرض، أو بقعة ظللتها السماء لنا.

 
تقول فيروز؛ ردني إلى بلادي مع نسائم الغوادي، وأنا لست في انتظار تلك النسائم يا عبدالرحمن، ردني إليها في أي وقت وتحت أي ظرف، أنا مشتاق لجمال فلسطين فوق كل جمال، وأشتهي زعترها وزيتها على كل طهو، تأسرني رائحة أشجار البرتقال كما لا تأسرني عطور روما، وأنوار القدس الخافتة على أنوار باريس، أنتظر بلهفة جلسة على التل القريب؛ مثلما كان يحكيلي جدي رفقة صحبه، هناك كل الطيب أطيب، وكل الحسن أحسن، وكل عظيم أعظم من أن يقارن بغيره، لأنه يمتزج بأنفاس من ثقلت جفونهم وعمت عيونهم إلا عن المسجد. هناك فلسطين، ومعها روحي. "يا هوى دخل الهوى خدني على بلادي"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.