شعار قسم مدونات

الشّرارة.. الدافع والمانع

Blogs- man
لا دُخان من دون نار، قالتها جدتي ذاتُ السبعين عاماً ونيف في مَوضع مُعيّن، وقد اعتلت وجهها نظرة واثقة أنَّ النتيجة التي رأتها حينذاك كانت ترتبطُ بسبب ما على الرغم من عدم وضوحه. ويُطلُّ هذا المَثلُ علينا دوماً، فأتذكره ولكِن مقلوباً، أراه مُتأصلاً فينا قَدر تأصله في تُراثنا العربيّ.
 
فالعلاقة بين السبب والنتيجة تستوجب أن نوقد فينا ناراً لنترك دخاناً خلفنا؛ ولست أقصد هنا المعنى الحرْفيّ، ما أقصده أنَّنا دوماً يجب أن يُحركنا دافعٌ ما، كلمة هُنا، موقف هناك، فِكرة عابرة، المهم أنه لا بُدَّ من مُحرِّك يجعلنا نبحث عن شُعلة نارٍ مُتبقية فينا ونحرص على أن نوقدها ونُذكيها لعلها تُشعل لهيباً يترك أثراً.
 
ولكنْ ما هو الدافعُ اللازِمُ لإدامة الشغف فينا تِجاه كُلّ ما نفعله؟ أهو دافعٌ خارجيّ كشخص يوجّهنا ويحفِّزُنا باستمرار دون انقطاع -فقط لانه يُريدنا أن نكون أفضل- مُعلماً كان أو أباً أو صديقاً، أم هو دافعٌ داخليّ ينبُع من ذواتنا ويدفعنا الى التطور يوماً بعد يوم، كائِناً ما كان؟ المهم أن يكون فقط، ففقدان الشَغف أمر كارثيّ يجعلنا نتمنى نِهاية يومنا تماماً بعد أن نفتح أعيننا في بدايته، ونغوص في حياة لا تشبه الحياة أبداً. روتينٌ قاتل يتفنن في قتلنا ونحن على قيد الحياة لتقتصر مهمتنا الرئيسية على استهلاك الأوكسجين والأكل والشرب والنوم.
 
ولهذا فإننا فقط نحتاج الى تلك الشرارة الصغيرة لعمل أي شيء في حياتنا، ونادراً ما تنبع روح الحياة فينا فتكون شرارتنا تلك داخلية منا، فنشترط العديد من الظروف لكي نبُثَّ في ذواتنا رغبة الإنجاز، نمتعض هنا ونتذمر هناك ونُعلق كسلنا على شماعة الظروف دوماً؛ ويتجلى هذا الأمر في العديد من المجالات: ندرس عند تحديد موعد الامتحان فقط، نرتدي ملابسنا قبل ربع ساعة من موعدنا الذي تحدد زمانه منذ الصباح، نشحن هاتفنا عند انخفاض نسبة بطاريته الى الرمق الأخير.. نحن مبرمجون على أن ننتظر الى ذلك الرمق ونُنصِّب أنفسنا أبطال اللحظات الأخيرة والوقت بدل الضائع، إما تسويفاً أو إهمالاً أو كسلاً. وتجلى هذا أيضاً في قلمي في الآونة الأخيرة، أجد نفسي غير قادرٍ على الكتابة إلا بعد دافعٍ قوي.. هناك شيء مفقود، رُبَّما الشغف.. رُبَّما.
 

عندما تتداعى عليك الحياة وتُفاجئك وأنت لست مستعداً لها بعدُ، ما هو الدافع الذي ستتذكره حينذاك؟ ما الذي سيجعلك تنهض مرة أخرى؟
عندما تتداعى عليك الحياة وتُفاجئك وأنت لست مستعداً لها بعدُ، ما هو الدافع الذي ستتذكره حينذاك؟ ما الذي سيجعلك تنهض مرة أخرى؟
 

المهم في هذه القضية ومربط الفرس هو "المُعلّبات"، 18 عاماً في المدارس الإعدادية والأساسية والثانوية ونحن يتمّ تعليبنا، سواءً في نمط التعليم أو في استغلال القدرات التي تموت تدريجياً إذا أُهملت، حتى في أفكارنا وأحلامنا وأمنياتنا، لترى من يتمنى الموت شهيداً وهو جالس على أريكته قدماً تعلو الأخرى، أو من يتمنى الموت ساجداً وهو لا يصلى حتى، ومن يحلم بتحرير بيت المقدس قبل أن يتحرر من عبودية فكره، والكثير الكثير من عمليات التعليب التي تُنتج أشخاصا طبق الأصل.

 
وبالطبع، نالت دوافعنا قسطا لا بأس به من التعليب، فأصبحت الحياة المادية دافعاً والمال دافعاً والرغبة في الرفاهية دافعاً والشهرة دافعاً.. ولا ضرر في هذا، ولكن الضرر أن تقتصر دوافعنا على مثل هذه الأمور فقط، فلا هَمّ مجتمعياً يعترينا، ولا رغبة في تطوير ذواتنا ومن حولنا، ولا اعتبارات أسرية أو مجتمعية أو حتى قومية دينية تهمّنا.. لتجد أول سؤال يبادرك به الناس عند الحديث عن أمور تخلوا من الماديات -كالتطوع مثلاً- عماذا سيفيدهم إذا خلا من الأجر المادي؟ أو بماذا سينعكس عليهم ذلك باعتباره مضيعة للوقت.
 
إننا نخوض حرباً في هذه الحياة ،حرباً طاحنة تستلزم كل ما لدينا من قوة، نخوضها كُل يوم، تحت مسمى "إثبات الذات" وتقتضي بالضرورة أن ندرك سبب وجودنا وأن نعمل جاهدين لتحقيقه بالجهد والمثابرة والصبر على عقباتنا المتتالية. ولأننا أضعف من أن نخوض حرباً دون أسلحة مناسبة، فالدافع هو سلاحنا في هذه الحالة. حددوا دوافعكم قبل خوض أي معترك في حياتكم. يقول ليس براون "عندما تطرحك الحياة أرضاً يجب أن تبحث عن بعض الأسباب التي تمنحك القوة، عندما تسقط وستسقط حتماً، فهذا أمر طبيعي في حياتنا، عندما تتداعى عليك الحياة وتُفاجئك وأنت لست مستعداً لها بعدُ ما هو الدافع الذي ستتذكره حينذاك؟ ما الذي سيجعلك تنهض مرة أخرى؟"..
 
وأجيبوا عن سؤال براون في أدمغتكم: ما هو الدافع؟ هل عرفتكم ما هو السر الكامن وراء وجودكم، لماذا تحرصون على أن تكونوا أفضل؟ لماذا تدرسون؟ لماذا تعلمون؟ ما الدافع من تحصيل الماء؟ هل الحياة الكريمة فقط هي المطلب؟ وبعد الموت، ماذا سيكتب تحت اسمك في صفحات التاريخ؟ هل تطمح الى أن تترك أثراً أم تفضل أن تغادر بسلام؟.. وسط كل هذه لاأسئلة، حدد شرارتك الأولى، جد شغفك، واختر دافعك بدقة، ثم اربط أحزمتك متأهباً لما سيأتي، أنت مستعد للحرب الآن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.