خواطر من مدينة "بومبي"

قادني حضور ندوة حول "الصحافة المواطنة"، عقدت بمدينة نابولي الإيطالية نهاية شهر سبتمبر الجاري، إلى الوقوف على واحدة من عجائب الدنيا التي قليلا ما نسمع عنها، إنها مدينة "بومبي" ومآلها الغريب الذي مازال يحير العلماء كإحدى آيات الخلق العظيم.
 
إعلان

وإذا كانت هناك منطقة أخرى تضاهي روما عاصمة إيطاليا، التي تصنف بأنها أكبر معرض أثري مفتوح في العالم، فستكون بالتأكيد هي مدينة نابولي وجارتها "بومبي".
 

يصف المؤرخون بأن ما حصل لمدينة "بومبي" كان أسوء كارثة في التاريخ القديم

وأكاد أعتبر من المفارقات، أن نابولي تشتهر بناديها الرياضي ولاعبه التاريخي ديغو مارادونا، أكثر مما تشتهر بتاريخها العريق. فهذه المدينة التي كانت عاصمة لأقدم مملكة إيطالية تحمل اسم "مملكة نابولي"، هي أقدم وأعرق حتى من روما العاصمة الحالية لإيطاليا، بناها اليونانيون وتعاقبت على حكمها عدة حضارات من اليونان إلى الرومان مرورا بالأسبان والفرنسيين.
 

إعلان

كل هذه الحضارات تركت بصماتها واضحة في المدينة سواء عبر تراثها المعماري الغني والمتنوع، أو من خلال لغة أهل البلد الغنية بمفردات استوعبتها من كل الحضارات التي عبرتها. وبالنسبة للمواطن المتوسطي، المنتمي إلى إحدى الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط، سيجد نفسه كأنه في إحدى شوارع الإسكندرية أو بيروت أو تونس أو طنجة.. فنمط الحياة المتوسطي جعل سكان حوض البحر الأبيض المتوسط أكثر تفتحا على الآخر والأسرع في استيعاب ثقافته ودمجها في الثقافة المحلية، ولعل هذا ما يجعل من حضارة هذا الحوض واحدة من أقدم وأغنى الحضارات الإنسانية بفكرها وإبداعها وعمقها..
***

ومهما تشابهت مدن المتوسط بفضل تداخل ثقافات شعوبها، إلا أن نابولي تبقى فريدة من نوعها بفضل عراقة تراثها، ويكبر الانبهار بهذه المدينة العريقة عندما ينتقل زائرها إلى المدينة الأثرية "بومبي" التي توجد على بعد عشرين كيلومتر عن نابولي.
 

و"بومبي" لمن لا يعرفها، هي في حد ذاتها معجزة يقف العقل البشري عاجزا عن تفسير وجودها حتى اليوم. فهي كانت حاضرة زاهية ترقد بهدوء تحت جبل لم يكن سكانها يعلمون أنه يحوي في داخله بركان عظيم يسمى "فيزوف" أو "فسيوفيوس"، لأن البركان ظل خامدا لأزيد من 1500 سنة قبل أن ينفجر ذات يوم بعيد من عام 79 بعد الميلاد ويطمر المدينة وسكانها تحت رماده مئات السنين قبل أن تكتشف في القرن السابع عشر ميلادي وبالضبط عام 1748 ميلادي.
 

داخل شوارع المدينة سينبهر الزائر من طريقة رصفها بحجارة ضخمة، وبوجود مصارف لمياه الأمطار وشبكات للري، وممرات لتفادي مياه السيول

تحكي كتب التاريخ أن "بومبي" كانت مدينة مزدهرة في عصرها عندما بنيت ستة أو سبعة قرون قبل ميلاد المسيح، وكان مصدر ثرائها من نشاط أهلها التجاري بحكم موقعها على مفترق الطرق التجارية التي كانت تعبر حوض البحر الأبيض المتوسط، وأيضا بفضل ثروات حقولها الغنية التي خصبها عبر مئات السنين سماد البركان الذي قذفه الجبل قبل مئات السنين من بنائها أول مرة. لكن سكانها لم يكونوا يعلمون أن البركان الذي جعل تربة حقولهم خصبة هو نفسه الذي سيحرقها ذات ليلة عصيبة، بل إن حتى كلمة بركان لم تكن موجودة في اللغة اللاتينية لأنه لم يسبق لليونانيين القدماء أن رأوا بركانا قبل انفجار البركان الذي سيمحي مدينة "بومبي" وفي نفس الوقت سيخلدها إلى يوم الناس هذا.
***

تعلمنا كتب التاريخ أن مدينة "بومبي" وجدت في عصر الحاكم اليوناني نيرون، وكانت مدينة عامرة بسكانها الذين كانوا يقدرون آنذاك بنحو 20 ألف نسمة. وداخل المدينة نشأ مجتمع روماني تقليدي يتكون من طبقات الأسياد والمحاربين والعبيد، ومن خلال الآثار التي خلفوها فقد كانوا يعيشون عيشة رغدة، بيوتهم عبارة عن قصور فخمة تحوي حمامات كبيرة، وكل أزقة المدينة مرصفة بالحجارة الصلبة، وداخل المدينة ساحات كبيرة ومسارح واسعة بنيت على الطريقة اليونانية القديمة.
***

إعلان

وبفضل تطور علم التنقيب والآثار توصل المؤرخون إلى تحديد يوم الكارثة بالضبط، وهو يوم 24 من شهر أغسطس عام 79 بعد ميلاد المسيح، كما تمكنوا من إعادة تصور آخر يوم في المدينة قبل أن يطمرها رماد البركان الحارق مئات السنين، وهناك اليوم الكثير من الأفلام الوثائقية التي تعيد تصوير آخر يوم في المدينة قبل جحيمها.
 

ومن خلال كل هذه الوثائق نفهم أن سكان المدينة لم يستوعبوا كل الإشارات التي كان يبعثها لهم البركان قبل انفجاره، فأثناء مخاض الجبل تصاعدت من فوهته سحب من الدخان، واهتزت الأرض مرات تحت سكان المدينة، وجفت الآبار وهجرت الطيور الجبل محلقة بعيدا، وارتفع عواء الكلاب الذي كان ينذر بقرب وقوع الكارثة..
 

كما تروي لنا تلك الوثائق أن انفجار البركان حدث في منتصف النهار، عندما ارتفع عامود من الدخان 15 مترا في السماء حمل معه مائة مليون طن من الرماد.
 

إعلان

في البداية انبهر سكان المدينة من هول ما حدث ومن بينهم من نفذ بجلده خارج المدينة إلا أن الأغلبية اعتقدت أن الأمر يتعلق بظاهرة طبيعية سرعان من ستنتهي، وأن أفضل مكان للاحتماء منها هو بيوتهم التي كانوا يعتقدونها آمنة. وحتى بعد أن ساقت الرياح سحابة الدخان الكثيف فوق المدينة وحولت نهارها إلى ليل دامس، اعتقد أهل المدينة أن الأمر يتعلق بكسوف للشمس سرعان ما سينقشع، لكن ما حدث بعد ذلك هو سقوط تلك الأطنان من الأتربة والرماد والحجارة مع زخات مطرية عاصفة، هلك كل من كان يوجد في أسواق المدينة وشوارعها. ولم تكن تلك سوى بدايات الكارثة المهولة، لأن ما سيأتي كان أعظم وأبشع بالنسبة للناجين الذين احتموا تحت سقف بيوتهم التي كانوا يعتقدون أنها ستنجيهم من الهلاك المحتوم.
 

لكن تلك لم تكن سوى بدايات انفجار البركان الذي قذف بعد ذلك بكل ما في جوفه من حمم ونيران، ففي لحظة عظيمة انشق بطن الجبل، وانفلق الصخر، وتدفق بحر عارم من الحمم حمل معه عشر مليارات من الرماد غطى ما بقي ظاهرا من المدينة التي طمرها المطر الرمادي، فهلك أهلها مختنقين بالرماد وما حمله من كبريت سام، وتحولت الجثث التي غطاها الرماد الكبريتي إلى منحوتات على شكل تماثيل مازالت خالدة حتى يومنا هذا.
***

ستجد نفسك منبهرا أمام عظمة تلك الأمة التي سكنت تلك المدينة في غابر العصور، حائرا عاجزا خائفا أمام "تماثيل" أهل المدينة الذين حنطهم الرماد وما حمله معه من كبريت
إعلان

ومن يعود إلى ما تبقى من المدينة المكتشفة بعد أن رفعت عنها آلاف الأطنان من الرماد الذي ظل يخفي معالمها، سيجد نفسه منبهرا أمام عظمة تلك الأمة التي سكنت تلك المدينة في غابر العصور. وسيقف حائرا عاجزا خائفا أمام "تماثيل" أهل المدينة الذين حنطهم الرماد وما حمله معه من كبريت، فخلد لحظات الخوف والرعب التي عاشوها ساعة وقوع الكارثة. فهذه أم تحتضن رضيعها وهذا رجل يتكئ على مرفقه وهو يرنو بنظره العاجز إلى جثة طفله الهامدة، وهذا رجل تقوس يحمي وجهه من شرر اللهيب الذي كانت تنسفه الحمم، وهذا كلب منعه طوقه من الهروب فبقي يتلظى من حر اللهيب الذي جمد الدم في عروقه حتى تيبست أعضاؤه لحظة أن زهقت روحه.. ومن بين خمسة آلاف من سكان المدينة الذين يعتقد أنهم هلكوا بداخلها عثر على ألفي هيكل عظمي من بينهم العديد من الهياكل التي حنطها الرماد الكبريتي بما كان على جسد أصحابها من ثياب حتى اليوم.
 

وداخل شوارع المدينة سينبهر الزائر من طريقة رصفها بحجارة ضخمة، وبوجود مصارف لمياه الأمطار وشبكات للري، وممرات لتفادي مياه السيول، ويكاد لا يخلو زقاق من أزقتها من وجود صهريج صغير للمياه العذبة.

أما أسواق المدينة فيخيل للزائر أن معمروها غادروها للتو وليس قبل 1937 سنة بالتمام والكمال، أما آثار النقوش وألوانها فما زالت ظاهرة خاصة داخل بيوت الأغنياء، وأواني الطبخ والشراب حفظت كما هي.
***

يصف المؤرخون بأن ما حصل لمدينة "بومبي" كان أسوء كارثة في التاريخ القديم، وككل فاجعة إنسانية كبيرة حيكت حول مأساة "بومبي" الكثير من الأساطير الخرافات من قبيل أن ما أصاب أهلها كان عقابا سماويا بسبب انصراف أهلها إلى اللهو وانتشار الفحشاء بينهم.. لكن كتب علم التاريخ تعلمنا شيئا آخر ويكفي أنها هي من علمتنا بوجود حضارة عريقة مثل حضارة "بومبي".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان