الطباق فن التعايش بين الهويات المتنافرة والمختلفة، إذ يكون التنوع في اللغة والدين والثقافة عاملا تكوينيا يساعد على التماهي بين الثقافات والقدرة على التفاهم والتشابك |
ولكن لا بد لنا هنا من توضيح لمفهوم الطباق وتجلياته الفكرية والأنتولوجية، كمنهج تأويلي هيرمونيطقي نستطيع من خلاله قراءة الاختلاف والآخر، وعدم السقوط في فخ الاختزال والتطرف الآيدولوجي والديني والثقافي. ولو رجعنا للتقعيد الموسيقي لهذا المصطلح، نجد مثلا معجم حروف الموسيقى يعرف الطباق الموسيقي كالآتي: فن التشابك والتفاعل بين النوتات الموسيقية" أو "النوتات المتضادة" (178).
الطباق فن التعايش بين الهويات المتنافرة والمختلفة والهجين، إذ يكون التنوع في اللغة والدين والثقافة عاملا تكوينيا يساعد على التماهي بين الثقافات والقدرة على التفاهم والتشابك من خلال التحرر من الأيدولوجيات الدوجمائية والأفكار المسبقة المتشنجة والبعيدة عن قيم الحرية والحب والمساواة والكرامة.
من خلال هذا المفهوم الطباقي، يبدو أن المنهج الطباقي يشكل ضرورة وجودية وأخلاقية ملحة في التعامل مع الاختلاف والتناقضات التي تفرزها الهويات الهجين والهويات التي تشكلت في المهجر والمنفى. ولا يمكن أن ننسى قصيدة محمود درويش "طباق" والتي قام من خلالها برسم الهوية الطباقية شعرا ورؤية، من خلال حوار سقراطي متخيل أجراه بينه وبين المفكر إدوارد سعيد، إذ يقول:
هل المستحيل بعيد؟
يحب الرحيل إلى أي شيء
ففي السفر الحر بين الثقافات
قد يجد الباحثون عن الجوهر البشريّ
مقاعد كافية للجميع
هنا هامش يتقدم، أو مركز
يتراجع. لا الشرق شرق تماما
ولا الغرب غرب تماما
فإن الهوية مفتوحة للتعدد
لا قلعة أو خنادق
من خلال ظاهرة الطباق تصبح مسألة فهم الاختلاف في الهوية والتاريخ والثقافة أمرا أكثر جدوى، وضرورة وجودية لا يمكن تجاوزها |
ويمثل الطباق حالة انعتاق إبداعية ولغوية وفكرية لا مثيل لها حيث تصبح الأصوات الأفقية ذات أهمية لا تقل جماليا وأسلوبيا عن الأصوات العمودية. ومن خلال ظاهرة الطباق تصبح مسألة فهم الاختلاف في الهوية والتاريخ والثقافة أمرا أكثر جدوى وضرورة وجودية لا يمكن تجاوزها، وتصبح أنسنة الأدب ضرورة ملحة للقارىء والناقد والكاتب على حد سواء. المهم هنا هو تعدد الأصوات والسرديات والخطاب بكل ألوانه وأطيافه وأعراقه، لتكون القراءة الطباقية أداة نقدية وأبيستمولوجية لتفكيك التناقضات بين الذات والآخر، وبين الذات والعالم، وبين الذات وصورتها الجوانية وتجلياتها الإجتماعية والأيدولوجية والجمالية في سياق الجندر والعرق والهوية ومركب الواقع المتخيل والواقع المفروض.
الطباق الموسيقي في السياق الأوروبي:
تعود لفظة الطباق لتراث كلاسيكي قديم تجلى في الأدب الأوروبي في القرن الرابع عشر، واشتق مفهوم الطباق من الكلمة اللاتينية (Contrapunctum). ومن الجدير بالذكر أن مفهوم الطباق متجذر تاريخيا في ثقافة الهيمنة الأوروبية، وكما أكد أيرفينج في كتابه الموسوم بعنوان "الطباق الاستعماري"، فإن الغرب كان يتوسل بمفهوم الطباق كوسيلة للتفرد الحضاري والموسيقى على الشعوب الأخرى غير الأوروبية. وقد تم توظيف المفهوم موسيقيا ونقديا من قبل المفكر الألماني ثيودور أدورنو، ومن بعده قام المفكر الكوني إدوارد سعيد بتبني المفهوم نقديا وفكريا في سياق مختلف ومناقض للمفهوم الغربي المركزي.
لقد شكل المنفى الطباقي علاقة مركبة في مخيال المفكر والناقد الموسيقى إدوارد سعيد. وهنا يمكن أن نخلص للنقاط التالية في ظل فهمنا للهوية والآخر ودور المثقف الطباقي في مقاومته لجرافات التاريخ والسلطة:
1- المثقف غير محايد في مواقفه الجمالية والتأويلية والسياسية والأيدولوجية، فهو إما أن ينحاز للمعذبين في الأرض في دفاعه عن الحقيقة الأخلاقية وقيم العدالة والمساواة وحقوق الإنسان والتوازن البيئي، وهذا ينطبق على مشروع إدوارد سعيد نفسه ونعوم تشومسكي وبول فريري وألين بيندا ونيتشه وسارتر وجوديث بتلر وغيرهم.
كان سعيد مثقفا موسوعيا وطباقيا يدرك أن الإعتراف بالمحرقة اليهودية لا يتعارض مع راديكاليته في مقاومة المحو الثقافي والتطهير الحضاري الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين |
3- لا يمكن قراءة الأدب والموسيقى بمعزل عن الثقافة وفهم دوافع الهيمنة والسلطة بكل أشكالها وعلاقة هذه الدوافع بالوعي الإنساني والهوية والقيم الكونية والتاريخية والاقتصادية التي تشكل خريطة العالم الحقيقية والمتخيلة. ومن هنا يمكن اعتبار المنهج الطباقي وسيلة تحررية وعلمانوية في قراءة الذات والآخر والتاريخ.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.