شعار قسم مدونات

حسابات ما بعد الانتخابات التشريعية في المغرب

Moroccan Prime Minister Abdelilah Benkirane Secretary-general of the Justice and Development party (PJD) waves during a party meeting in Rabat, Morocco October 6, 2016. REUTERS/Stringer/File Photo FOR EDITORIAL USE ONLY. NO RESALES. NO ARCHIVES
وضعت "قيامة الانتخابات" بالمغرب (وفق منطوق الملك محمد السادس) أوزارها وأخرجت غلتها، بعد حملة انتخابية كانت قصيرة في مداها الزمني، لكنها كانت مليئة بالوعود والوعود المضادة، بالبرامج والبرامج المضادة، تكاثرت وتنوعت لدرجة استعصت على الجماهير عملية استيعابها، فما بالك باستقرائها أو هضمها.
 

ومع أن الأحزاب المتبارية المختلفة (شارفت على الأربعين حزبا) قد راهنت في البداية على تأثيث حملاتها الانتخابية انطلاقا وعلى أساس من تبخيس حصيلة حكومة عبد الإله بنكيران، فإنها سرعان ما تبرمت عن ذات الرهان عندما حولت الآلة الإعلامية الضخمة لحزب العدالة والتنمية المغربي (إعلاما ووسائل تواصل اجتماعي) بوصلة الصراع الجاري من حقل محاسبة الحصيلة الاقتصادية والاجتماعية، إلى فضاء المبارزة السياسية التي بناها الحزب على أساس ثيمات التحكم واستمرارية عرقلة مشروعه في الإصلاح من لدن أطراف لم يكن يسميها، لكنه كان يلمح إليها بالمباشر الذي لا يقبل التأويل.
 

حزب العدالة والتنمية لم يستسغ لحد الساعة حصول غريمه الأقوى على المرتبة الثانية، بل اعتبر أن جزءا من مقاعد غريمه هي "أكل من رصيد الحزب"

ولكأن الآلة الدعائية القوية والمنظمة التي عمد الحزب إلى إعمالها في الزمان والمكان، لم تكن لتفي بالغرض المطلوب، فإنه قد عمل أيضا على الدفع بأعضائه من الصف الأول (بالمراكز الكبرى كما بالمناطق النائية) لتأثيث مهرجانات كبيرة لم تثر فيها مسألة تقييم وتثمين ما تم إنجازه، بقدر ما تمحورت حول قضايا جانبية خالصة، من قبيل إعلان الحزب عن تخوفه من تزوير النتائج لفائدة غريمه، حزب الأصالة والمعاصرة(صنيع السلطة حسب أدبياته)، أو في أخف الحالات استمالة الناخبين (بقوة الترغيب أو الترهيب) للتصويت لفائدة هذا المرشح المنافس أو ذاك.
 

ولذلك، فإن تركيزه على هذه الجزئية (لدرجة تحويلها إلى شعار لحملته) وقدرته على "استشراف النصر" (وهو الذي يعرف بدقة الشرائح الاجتماعية التي يراهن عليها ويوجه لها خطابه) جعله لا يتوانى في توجيه فوهات مدفعيته صوب موظفي وأعوان وزارة الداخلية بالمقر العام حيث "تطبخ النتائج"، كما بالمصالح الخارجية (عمالات ومحافظات ومقاطعات) حيث تنفذ التوجيهات على الأرض. بل إن الحزب ذهب لحد اعتبار عدم تصدره للانتخابات مؤشر تزوير وتلاعب، وحذر من تبعات ذلك على النظام والمنظومة، كما على التجربة الديموقراطية التي دشنها دستور العام 2011، وراهن الملك شخصيا على صيانتها وضمان سير مسلسلها.
 

وعلى الرغم من أن اقتراع يوم الجمعة 7 أكتوبر/تشرين أول قد بوأ حزب العدالة والتنمية صدارة المشهد السياسي في المغرب، واعتبرته تقارير المراقبين الدوليين والوطنيين اقتراعا "ناجحا، حتى وإن طالته بعض التجاوزات البسيطة هنا أو هناك"، فإن الحزب لم يستسغ لحد الساعة حصول غريمه الأقوى على المرتبة الثانية (103 مقعدا مقابل 125 للعدالة والتنمية)، بل اعتبر أن جزءا من مقاعد هذا الأخير هي "أكل من رصيد الحزب"، دع عنك ما التهمه للفاعلين الآخرين. وهو الحزب الذي يراه وافدا جديدا، أنشئ من عل "لإفساد الحياة السياسية والعودة بالمغرب إلى عهود التسلط والتحكم".
 

هذا في أسباب النزول. أما في تداعيات تصدر حزب العدالة والتنمية للعملية السياسية، فإن المرء لا يمكن إلا أن تستوقفه مجموعة معطيات دالة، نلخصها في التالي، على اعتبار ما سيترتب عنها في المديين المتوسط والبعيد:
 

المعطى الأول ويتعلق بالإفلاس الشامل الذي طال منظومة اليسار وقوى اليسار، والتي كانت إلى حين نهاية عقد التسعينات من القرن الماضي، القوة السياسية الأبرز في البلاد، بل قل القوة التي أثثت المشهد السياسي لعقود طويلة، وطبعت مساراته ومنعرجاته وتموجاته في الشكل كما في المضمون، وقبل أن يكون لحزب العدالة والتنمية من أثر حتى.
 

صحيح أن كل الأحزاب التقليدية المتبارية قد عرفت تراجعا واضحا في عدد مقاعدها (الحركة الشعبية، حزب الاستقلال، حزب الأحرار، الاتحاد الدستوري.. الخ)، لكن ذلك لم يكن ليتم لولا طبيعة الخطاب المتجاوز والمتعالي لمنظومة اليسار (بحكم مكوناته ذات الخلفية الجامعية الجافة)، وكذا قدرة وقوة الحزبين الأولين على غزو معاقل ذات الأحزاب، ومن ثمة استقطاب جزء من قواعدها الانتخابية والانقضاض على المراكز التي كانت تتحصن بها إلى حين عهد قريب (المدن الكبرى تحديدا).
 

المعطى الثاني ويكمن في واقع القطبية الثنائية الذي يبدو أن حزبا العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة قد دشناه، باعتبار الأول مفصل الحكومة القادمة والثاني عماد معارضتها. ستلتئم لا محالة حول هذا كما ذاك فسيفساء الأحزاب المتوسطة والصغيرة لتحصيل جزء من الغنيمة يقول البعض، لكن ركنا القطبية سيبقيان هما قلب ومحرك عملية تداول الأحزاب على السلطة في القادم من استحقاقات.
 

بيد أن هذا المعطى لا يبدو ثابتا من وجهة نظر التقاليد المرعية في هذا الخصوص، إذ تبين التجارب أن مبدأ القطبية يستوجب قوى متنافرة (من اليسار ومن اليمين تحديدا) بمشاريع واختيارات مجتمعاتية تشارف على التناقض، في حين أننا بالمغرب إزاء حزبين لا يتشاركان في الهوية دون شك (أحدهما ذو مسحة إسلامية بارزة والثاني من مرجعية علمانية معلنة)، لكنهما "متشبعان" معا بمبادئ الليبرالية والسوق المفتوحة ولهما نفس المشروع الاقتصادي.
 

ستكون قطبية هجينة دون شك، لكنها تمتح على أية حال من معين حزبين يجمعهما الكثير، وإن كان أحدهما في السلطة والآخر في المعارضة. بيد أن تكريسا لتوجه من هذا القبيل لن يخلق فقط صراعا ثنائيا برهان واحد، بل قد يترتب عنه تقليص لمجال التعددية السياسية الذي يعطي للفعل السياسي نكهته ولونه بل وتوازنه.
 

هذا من زاوية التداعيات. أما بجانب أفق الاشتغال قريب المدى، فيبدو أن عملية تكوين حكومة جديدة هي عملية متعذرة في مظهرها طالما أن الحزب المتصدر للنتائج لا يتوفر على الأغلبية لتكوين الحكومة إياها، في حين أن الأمر قد لا يبدو كذلك في جوهره أو في طبيعة التحالفات التي قد تسند أوتاده.
 

أولا: بمنطوق دستور العام 2011، فإن الملك مقيد بالفصل 47 الذي يجب على رأس الدولة بمقتضاه أن يعين رئيسا للحكومة من الحزب الذي فاز بالمرتبة الأولى في الانتخابات، بما يعني والحالة هذه استمرار بنكيران في منصبه أو تفويض الحزب لشخصية أخرى تقود الحكومة. الملك هنا غير مجبر على تعيين المسؤول الأول عن الحزب، لكنه مجبر على المناداة على شخص من الحزب إياه.
 

بيد أنه في حالة ما إذا لم يستطع الحزب تشكيل الحكومة لاعتبارات ما، سنأتي على بعضها أدناه، فإن الدستور لم يقدم حلا لذلك، وهو ما معناه تلقائيا العودة للصناديق من جديد، أو إبداع صيغ توافقية أخرى للخروج من الفراغ الذي لربما لم يستشرفه واضعو الدستور.
 

وهو سيناريو مستبعد لحد كتابة هذه السطور، ليس فقط للتكلفة المادية والرمزية التي ستترتب على خيار إعادة الانتخاب، ولكن أيضا لأنها قد تبدو كما لو أنها انتكاسة للمسار أو ارتدادا على ما تنص عليه الوثيقة الدستورية.
 

ثانيا: تشكيل حكومة وحدة وطنية، يقودها حزب العدالة والتنمية وتضم في عضويتها منتسبين لحزب الأصالة والمعاصرة، إذا لم يكن لاقتصاد الوقت والموارد، فعلى الأقل لحين إيجاد "تخريجة" مرضية ومواتية تتجاوز على ما لم تشر إليه بنود الدستور في هذه النازلة.

وهو سيناريو مستبعد أيضا، ليس فقط لأن حزب الأصالة والمعاصرة قد حسم أمر قيادته للمعارضة البرلمانية القادمة، ولكن أيضا لأن حزب العدالة والتنمية قد أغلق هو الآخر هذه النافذة. يقول الأمين العام للحزب: إن خيارات تحالفات حزبه لتشكيل الحكومة المقبلة "مفتوحة على جميع الأحزاب باستثناء حزب واحد نرى أنه لن تكون هناك فرصة للتحالف معه وهو حزب الأصالة والمعاصرة".
 

ثالثا: لن يعدم حزب العدالة والتنمية السبل كثيرا لتشكيل حكومته، بل يظن قادته من الصف الأول بأن "الوضع سيكون أقل صعوبة من الفترة الماضية". بمعنى أنه بإمكانه ترميم تشكيلته من خلال ربط تحالفات مع حزب الاستقلال والحركة الشعبية والاتحاد الاشتراكي، دونما الحاجة إلى حليفه "القديم" (حزب الأحرار) الذي أثث جزءا من حملته الانتخابية بالمزايدة على الحصيلة الحكومية التي كان فاعلا مركزيا فيها، بل كان حاملا لحقائب وازنة طيلتها. وقد لا يتردد حزب العدالة والتنمية، بالمقابل، في اللجوء إلى هذا الأخير (حزب الأحرار أقصد) في سيناريو آخر بديل، دون الحاجة إلى خطب ود حزب الاستقلال، أو الخضوع لابتزازات الأحزاب الصغيرة.. وهكذا.
 

يبدو أن نمط الاقتراع والنظام الانتخابي سيفرزان نفس النتائج لا محالة، ونعود بالمحصلة للمربع الصفر، طالما أن جزءا كبيرا من السياسة الانتخابية والحزبية مرتكز على النمط والنظام إياهما

بالمحصلة، فإنه بمقدور حزب العدالة والتنمية جمع ما تبقى له لبلوغ الـ 198 التي يحتاجها لتشكيل حكومة دون عقبات كبرى، أو احتمال إعمال ابتزاز من هنا أو مساومة من هناك.
 

رابعا: لو لم يبد أي حزب استعداده للتحالف مع بنكيران لسبب من الأسباب (وهو أمر يدخل في صلب نظرية المؤامرة، أو في إطار ترتيبات لا نعلمها أو لا معطيات مادية لدينا لإدراكها)، فإن لا بديلا دستوريا إلا اللجوء إلى الصناديق من جديد. بهذا السيناريو أيضا، يبدو أن نمط الاقتراع والنظام الانتخابي سيفرزان نفس النتائج لا محالة، ونعود بالمحصلة للمربع الصفر، طالما أن جزءا كبيرا من السياسة الانتخابية والحزبية مرتكز على النمط والنظام إياهما.. في هذه الحالة، يجب تعديل نمط الاقتراع، وهو أمر غير ممكن في الوقت الحالي وليس واردا في الأفق.
 

بكل الحالات، فلو تمت الإشارة على بنكيران بالتحالف مع هذا الطرف أو ذاك، فإن الرجل سيقبل دون شك.. بل ولن يعدم السبل في تسويغ ذلك حتى وإن لم يكن مقتنعا به.. إذ كما للرجل حساباته، فللدولة أيضا حساباتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.