شعار قسم مدونات

سفراء الجمال.. حين تغيرت معايير الجمال في الشعر العربي

BLOGS-شعر
وأزرقُ العين يمضي حدّ مقلته
مثل السنان بقلبِ العاشق الحذِر
قالت صبابة مشغوف بزرقتها
دعها سماويةً تمضي على قدَر
ابن نباتة المصري
***
 

للمرأة الجميلة في الشعر العربي صفات، يعرفها المطالعون له، لم تتغير كثيرا منذ عهد شعراء ما قبل الإسلام، فالشَّعْر مثلا منذ عهد امرؤ القيس أسودا فاحما وعليه سار من جاؤوا بعده:

وفرع يزين المتن أسود فاحم … أثيث كقنو النخلة المتعثكل
 

عاش ابن نباتة في العصر الذي عرف سياسيا بعصر الدول المتتابعة، وكانت لهذا العصر تمسية قديمة، لم يعد لها مكان بعد أن تكشفت جوانب العصر الفنية لنا أكثر

والفرع هو الشعر، والمتن أعلى الظهر، وأثيث يعني كثيف، والقنو هو عذق النخل الجاف إذا جرد من تمره.
 

وهو مع سواده، فإن العرب لم تكن تحب الشعر المنسل، بل يفضلون عليه السبط المتموج، مع طول القامة، والسمن الخفيف، ونجل العيون "اتساعها" وحورها "سوادها".
 

أما في زمان ابن نباتة المصري، فقد تبدلت الأحوال في شعره، وظهر الجمال ملونا بألوان غير التي ألفها العرب في غزلهم.

عرف الشعر العربي ثلاثة تسموا بابن نباتة هم الخطيب، والفارقي والمصري، أحدهم معاصر للمتنبي، أما من نعنيه، فهو ابن نباتة المصري الشاعر المملوكي، أصله من ميافارقين، وهي اليوم في تركيا ضمن حدود محافظة أورفا، لكنه ولد وتوفي في القاهرة، فنسب إليها. وهو معاصر لابن منظور صاحب لسان العرب.
 

عاش ابن نباتة إذا في العصر الذي عرف سياسيا بعصر الدول المتتابعة، وكانت لهذا العصر تمسية قديمة، لم يعد لها مكان بعد أن تكشفت جوانب العصر الفنية لنا أكثر، "هي عصر الانحطاط!" وكان التسمية قد وفدت إلى دراسات الأدب العربي مما قدمه مستشرقون مثل بروكلمان ونيكلسون والإيطالي "كارلو ألفونسو نلِّينو" متأثرين في ذلك بتاريخ الأدب اللاتيني.
 

وحدود الفترة المعنية طويلة نسبيا، إذ تبدأ بسقوط بغداد، عام ٦٥٦ هجرية، وتنتهي بحملة نابليون على مصر عام ١٢١٣ هجرية، أي قريب من ستة قرون، ويجعلها الدكتور شوقي ضيف أطول بقرنين إذ يبدأها من دخول البويهيين بغداد وسيطرتهم على الخليفة العباسي، ولا يمكن نظريا لفترة بهذا الطول أن تكون لها خصائص واحدة، أو أن تجمل تحت عنوان واحد للدراسة.
 

كانت هذه القرون الستة في مجملها قرون سيطرة غير العرب على الإدارة السياسية في العالم الإسلامي، من السلاجقة، والمغول والمماليك والعثمانيين، وهي إن كانت كذلك، فقد ظلت اللغة العربية هي اللغة الرسمية في كل تلك الفترات، حتى بداية عهد الاتحاديين في السنوات الأخيرة للعهد العثماني.
 

كان ابن نباتة ممن تجرأ على تضمين شعره غزلا على غير ما اعتاد العرب في الوصف فجاءت قصيدته: لسائل دمعي من هواك جواب، فما ضر أن لو كان منك ثواب، في مدح الجمال التركي إذ يقول:

على ضيق العينين تسفحُ مقلتي … ويطربني لا زينبٌ ورباب
فيا رشأ الأتراكِ لا سربَ عامرٍ … فؤادي من سكنى السلوّ خراب
 

فلعلها المرة الأولى التي يحزن فيها المها وبقر الوحش أن لم تشبه بهن محبوبة، والتي يضرب فيها بأسماء كزينب ورباب عرضا، إذ ذهب زمان العيون الواسعة، وغدت العيون الضيقة، هي عنوان الملاحة، كونها عنوان السياسة قبل ذلك.
 

وقال أيضا في قصيدة مطلعها: قام يرنو بمقلة كحلاء:

وحبيبٍ إليّ يفعلُ بالقلبِ … فعال الأعداء بالأعداء
ضيق العينِ ان رنا واستمحنا … وعناء تسمح البخلاء
 

عاش ابن نباتة صدر حياته شاكيا حاله في مصر، ثم رحل إلى الشام وهو على مشارف الثلاثين، وقضى فيها قريبا من نصف قرن في سعة، قبل أن يعود إلى مصر تلبية لدعوة الناصر حسن، وولاه ديوان الإنشاء، قال عنه ابن كثير هو حامل لواء الشعر في عصره، اشتهر بظرفه، كما اشتهر بكثرة شكواه.
 

كان زمنه زمن اضطراب، غاضت فيه الثروة، وكثرت فيه القلاقل، وقل فيه عطاء الأمراء على الشعر ما جعله كثير الخوف من الفقر، فكان يقول:

لقد أصبحت ذا عمر عجيب … أقضي فيه بالأنكاد وقتي
من الأولاد خمس حول أم فوا … حرباه من خمس وست
 

وكان يرى موهبته فيحزن أن تضيع رقتها، في مثل هذه الحياة:

كانت للفظي رقة … ضن الزمان بما استحقت
فصرفتها عن قدرتي … وقطعتها من حيث رقت
 

فلما رحل من مصر إلى الشام، صلح زمانه في رحاب الملك المؤيد فما عاد يخشى الفقر على أولاده، واطمأن قليلا حين قال:

تكفلت كل عام سحب راحته … عن البرية إشباعي وإروائي
 

وقال:

جاورت بابك فاستصلحت لي زمني … حتى صفا وانقضت تلك العداوات
 

ومع صفاء عيشه، وأمانه من قلقه الذي شغل صدر حياته، ظهر قلق جديد، وشكوى جديدة "أنا الذي يروي حديث الأسى"، لكن أساه هذه المرة "مسلسلا في الحب من مدمعي"، فهي شكاية المحب من الجفاء، وهي الشكوى التي تتم الشاعر، ولا مناص منها غير أنه كما أسلفنا في مطلع هذه التدوينة، كان أجرأ في صبابته، فهام في زرق العيون على غير ما اعتاد العرب، وفي ضيق العيون، وبديهي أنهما لا يجتمعان في عين واحدة.
 

الحق أن شكاية ابن نباتة على كثرتها في شعره، لم تظهر بمظهر شكوى الضعف، فهو لا يشكو الناس للناس، بل يشكو الزمان

والحق أن ابن نباتة كان فريدا في كلا الغرضين السابقين، فما كانت الشكوى أيضا من أغراض شعر العرب المألوفة كالفخر والمديح، إذ تأنف نفس العربي من الشكوى، ولا ترى كثرة الشكاية إلا مذلة وضعفا. ورغم ذلك عاد ابن نباتة يشكو الأيام من جديد:

ما أجور الأيام في إهمالها … حقي وأعدلها عن الإنصاف
أشكو التأخر في الزمان … وهذه شيمي لديه وهذه أسلافي
 

والحق أن شكاية ابن نباتة على كثرتها في شعره، لم تظهر بمظهر شكوى الضعف، فهو لا يشكو الناس للناس، بل يشكو الزمان، وزمانه كما يبدو لنا من كتب الأخبار زمان مضطرب جدير بالشكوى:

لا عار في أدبي إن لم ينل رتبا … وإنما العار في دهري وفي بلدي
هذا كلامي وذا حظي فيا … عجبا مني لثورة لفظ وافتقار يد
 

ومن اللطيف أن نذكر هنا أن المتنبي شكا زمانه أيضا حين قال "جاء الزمان بنوه في شبيبته فسرّهم وجئناه على الكبر"، فإذا كانت الشكوى قديمة، فمن ذا الذي رضي عن زمانه!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.