شعار قسم مدونات

كمامة صمت!

blogs - putin

يقول خبراء الأسلحة الكيمائية، إنه وبعد إطلاق القنبلة المميتة، تنتشر في الأفق مع الهواء الطري رائحة تفاح مغرية، كل من عبّأ رئتيه منها.. مات.
 

وفي السياسة أيضاَ، في قمة إطلاق المواقف الجادة وتعقّد الأحداث وسواد المشهد، تتسرّب إليك رائحة سخرية مغرية.. املأ رئتيك منها لتعيش…

مسامير وخيوط، جرح وإسعاف، قصف وإنقاذ، تدمير ودعوات إعمار، تشريد وخيمة، نزف ويود، كسر وجبيرة.. وهل السياسة غير هاتين المفردتين: مسامير وخيوط؟.

**
فنان "قرغيزستاني" يدعى "أزامات دزاناليف" يعتزم إهداء الرئيس الروسي "بوتين" لوحة فنية بمناسبة عيد ميلاده الرابع والستين، لم يرغب "أزامات" برسم لوحة تزيّن وجه الرئيس بألوان زيتية فاقعة تشبه مكياج المسنّات، ولا يريدها أن تُرسم بأقلام الرصاص فلا رصاص هذه الأيام إلا في دفاتر المعارك.. بل فضّلها أن تكون اللوحة مرسومة بالخيوط والمسامير.. بقلم فحمٍ رسم حدود الملامح، وغزر المسامير في المسامات، وبدأ يوصل بين الحواس والتقاسيم في خيوط متصلة ومعقدة تشبه المشهد السوري تماماً.

الابتسامة مربوطة ببؤبؤ العين كعلامة رضا على ما يرى، والأذن مربوطة بالحاجبين المرتفعين بنشوة الانفراد والقوة، وخيوط الجبين تصل مباشرة بمسامير الجفن المرتفعة التي لا تريد أن تغفل عما يجري من لقاءات ثنائية تبحث عن مفاتيح الحل و"علاّقة المفاتيح" كلها بجيبه.. إلخ الرسمة..
 

بالمناسبة الفنان لا يقصد أن يوصل أي رسالة سياسية للزعيم الروسي، هو مجرّد فنان بسيط يريد أن يهدي رئيسه المفضّل لوحة مختلفة من حيث الصناعة والإبداع.. أما نحن فجمهور القراء، جمهور الأوجاع، جمهور المتأرجحين بين خيوط الابتسامة والحزم فنقراها بطريقة مختلفة..
 

قلت، إنه في تعقد الأحداث وسواد المشهد، تتسرّب إلينا رائحة سخرية لا يمكن لنا إلا أن نتنفّسها.. ففي الخبر المنشور عن لوحة المسامير.. كل شيء يمكن قراءته بصورة مقلوبة، حتى اسم الفنان نفسه لا يمكن أن ننأى به بعيداً عن أوجاعنا الناتئة اسمه "أزامات"، أما موضوع اللوحة فواحد من أعمدة "أزمات" الشرق الأوسط، وأدوات الرسم مسامير وخيوط..
 

المسامير: زفير القنابل البدائية التي تنتشر مثل عش البعوض لتأكل لحم الضحايا الطري، لتحتل علامة فارقة في وجوه الأطفال والآمنين، لتثقب الجلود بالنار فتظل أبدية فتقرأها السياسة العمياء على طريقة "برايل".. أما الخيوط، فتذكرنا بخيوط الجراحة الترابية اللون، التي تقوم بدور الوسيط بين الجلد والجلد، تخترق ضفتي الألم تنسج بينهما خارطة متعرجة بأمر الإبرة، تشرف على الجرح بالقوة حتى يلتئم، وما أن تطمئن على "صلح الجرح" حتى تتفتت كسراب أو رماد ناعم..

مسامير وخيوط، جرح وإسعاف، قصف وإنقاذ، تدمير ودعوات إعمار، تشريد وخيمة، نزف ويود، كسر وجبيرة.. وهل السياسة غير هاتين المفردتين: مسامير وخيوط؟.

لو كنت فناناً مثلك يا "أزامات"، لرسمت وجهاً آخر للموت، لرسمت وجه العالم من أحذية الراحلين ووضعت "مريلة" الرضيع كمامة للصمت..

**
في كل مسامة وفي وجه الرئيس غرز "أزامات" مسماراً، وفي كل مسامة من وجه سوريا غرز "بوتين" دماراً، القرغزستاني حرص الا تنقطع خيوطه في وجه الزعيم، فمن غير اللياقة الفنية أن ينقطع الخيط فوق الجبهة مثلاً، والقيصر كذلك.. يحرص في لوحته "الدموية" ألا ينقطع خيط الدم من وجه سوريا..فمن غير اللياقة السياسية والعسكرية أن ينقطع الدم من على "الجبهة" أيضا..لا بد أن ينبت بكل بيت وجع ، وينبع من كل مسامة قطرة دم حتى تكتمل "اللوحة"، ويهديها لكل الخصوم الذين يفكّرون يوماً في دخول مرسم السياسة..

لو كنت فنّاناً مثلك يا "أزامات".. لرسمت لوحة للرئيس من "عكازات" الجرحى ولفائف الشاش.. لغرزت في كل مسامة "عكازاً" ووصلت بينهما بلفة بيضاء.. انظر من بعيد، ألا تبدو معبرة أكثر سيدي الرئيس؟!.. لو كنت فناناً.. لما استخدمت ألواناً "زيتية"، الدم في سوريا أرخص من الأصباغ كلها…تعال واغرف.. واتخذ طفلة بجدائلها فرشاة للوحتك…فكل ما على هذه الأرض متاحاً لإبداعك.. سيدي الرئيس..

سيدي الرئيس انصح طياريك أن يخلعوا السماعات الواقية أثناء الطيران فالطائرات التي تقصف حلب على ارتفاع 20الف قدم…لن تسمع صرخة الطفل الذي فقد "القدم"..

**
أخيراً، لو كنت فناناً مثلك يا "أزامات"، لرسمت وجهاً آخر للموت، لرسمت وجه العالم من أحذية الراحلين ووضعت "مريلة" الرضيع كمامة للصمت.. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.