شعار قسم مدونات

عشرون دهرا.. قصة جيل

blogs-مهند
خالد سعيد.. سمع باسم ذلك الشاب الذي مات منذ أيام فى مدينته على يد الشرطة.. شهور قليلة ستفصل تلك الحادثة عن أول مظاهرة ضخمة فى المدينة يشارك بها، تحمل فى رحمها نطفة ثورة، تذكر وهو يبدي رغبته لوالديه في المشاركة يوم 28 يناير، تلك المظاهرات التي كان يشارك فيها من أجل غزة، حالفه الحظ بأن آخر امتحان له كان بالأمس ولذا فحصل على الموافقة بالنزول غدا، سيأتيان معه أيضا.
 

18 يوما كان يشارك بشكل عشوائى فى التجمعات والمسيرات، كان اليوم الأول هو الأصعب حيث شم الغاز لأول مرة وسمع صوت الرصاص من بعيد، وكان اليوم الأخير هو الأجمل بعد أن سمعوا أخبار التنحى فى شارع مبنى الإذاعة، قرر فى تلك الليلة مباشرة أن يفعل حسابه على فيسبوك، ليتابع عالمه الجديد.

سيتوجه إلى رابعة، لم يكن معه أية ملابس أو تجهيزات استعدادا للسفر، أخبر والدته وهو في القطار حتى لا تعترض، وعندما وصل…

أولتراس ديفلز.. يكتشف أنها رابطة للأهلي هنا في الأسكندرية، النادي الذي يشجعه ويتابع كل مبارياته، يتعرف على مجموعتهم على فيسبوك، لم تمض شهور حتى كان مؤسس الرابطة محمود الغندور يسيرون بأعلامه فى الشوارع محتقنوا الوجوه نافروا العروق يهتفون "غندور بطل يشجع"، قتل غندور فى مجزرة بورسعيد، وجد الفتى ذو الرابعة عشر نفسه والشمروخ الأحمر فى يده أمام المنطقة الشمالية يلعن قاتله ويغنى مع فريقه وسط الأعلام الحمراء:
من الموت خلاص مبقتش أخاف
وسط إرهابك قلبى شاف
الشمس هتطلع من جديد
حرية.. حرية.. حرية
 

لم تثره الانتخابات الرئاسية كثيرا، ربما يتابعها فقط للضحك على النكات والقصص المصورة المتبادلة بينهم على الصفحات، على كل حال لم يكن له الحق الانتخابي بعد، ماذا لو كان له، لربما اختار أبو الفتوح أو خالد علي، هكذا اكتفى يوما بأن يرفع صورة لأبو الفتوح بشعار حملته، على كل حال أصبح لديه الآن ما يشغل حديثه مع أصدقاء القهوة غير هذا، ربما عليهم الآن ترك السياسة مرة أخرى لأصحابها وتبادل النكات حول الفتيات وآخر المغامرات فى التعرف على النت أو الخروجات مع دخان السجائر والشيشة المفعم حولهم.

خط الانحدار يسير بالفتى بدون رجعة، أو هكذا يبدو، أحيانا يحاول أن ينتشل نفسه وأحيانا أخرى يترك العنان لها، الفتاة التى يحدثها منذ سنة الآن ومقتنع أنهما سيكملان مع بعضهما البعض، الهفوات الأخرى مع أخريات، الدخان ومقدمات ما هو أكثر منه، مارينا والساحل، العراك المستمر في البيت، وربما الطرد منه أحيانا، ما المانع، شعور بالتمرد أقرب منه إلى الضياع.
 

في 30/6 الكثير ممن يتابعهم أو يعرفهم نزلوا فى ذلك اليوم، لم يذهب إلى أى مكان يومها، مر ثلاثة أيام حتى يدفعه فضوله لتفقد الأوضاع حيث كان فريقهم فى ميدان سيدي جابر، قابل أحد الأصدقاء وسأله عن طلباتهم، قال له: شفيق، سخر من محدثه وعزم ألا يطأ هذا الميدان مجددا، كانت الرؤية غير واضحة تماما، ومهلة بالأمس أعطاها الجيش للفريقين كى يتفقا، ما الذي يمكن أن يحدث!
 

توجه مباشرة للقطار وقرر أن يحجز أول تذكرة للقاهرة، سيتوجه إلى رابعة، لم يكن معه أية ملابس أو تجهيزات استعدادا للسفر، أخبر والدته وهو في القطار حتى لا تعترض، وعندما وصل لم يكن يعرف أى شخص في هذا الميدان العريض سوى اثنين فقط من أصدقائه جاؤوا من الأسكندرية قبله.
 

الأصوات المبحوحة والعروق النافرة، الدموع المسفوحة والخُمر النائحة، الزجاجات الفارغة والحجارة تطرق على الأعمدة والكل في هلع، كان هذا هو منظر الميدان عندما دخله بعد خطاب وزير الدفاع، استغرق وقتا حتى يفهم ما حدث، كان عليه بعد هذه الأنباء أن يعود إلى الأسكندرية بعد أن كاد القلق عليه يقتل والدي.

فى صباح اليوم التالي كانت الكاميرا والشاحن والمنشفة وغياران فى حقيبة ظهره متجها إلى رابعة مرة أخرى، قطع التذكرة وخرج من المحطة ينتظر القطار على مقهى في سيدي جبار، كانت رائحة غاز خفيفة فى الجو لم تلبث أن تأكدت بآلاف من عناصر شرطة وجيش ومئات المركبات التي ظن أنه لن يشهد لها مثيلا فى حياته، صراخ شق السكون الحذر لشخص غارق فى دمائه، حوله مجموعة من البلطجية بالسيوف يصيحون: إخواني إخواني
 

لم يشعر بنفسه إلا محمولا بين رجلين وضعاه في سيارة إسعاف أغلق بابها وانطلقت سريتها وعجلاتها المسرعة إلى المستشفى الأميري

قرر أن يترك حقيبته فى مكان آمن وحاول الالتفاف من الشوارع الجانبية حتى يصل إلى موقع المتظاهرين ومعه الكاميرا، وصل إلى الموقع وبدأت جولات من الكر والفر لساعات طويلة، أصوات الرصاص لم تكن كتلك التى سمعها أول مرة في يوم 28، ولا كذلك رائحة الغاز، والجديد هو كل هؤلاء من حاملي السيوف والأسلحة البيضاء المحيطين بالمتظاهرين من كل جانب، مع غروب الشمس كانت طلقة خرطوش قد استقرت فى رقبته، وسال منه الدم الأول.
 

لم يشعر بنفسه إلا محمولا بين رجلين وضعاه في سيارة إسعاف أغلق بابها وانطلقت سريتها وعجلاتها المسرعة إلى المستشفى الأميري، هناك حاولوا تهشيم الكاميرا وتهديده، أتت ممرضة ضجِرة لأخذ بياناته ثم مضت، بدأ يسمع ضجيج البلطجية يقترب من المستشفى فلملم أشياءه وترك جرحه النازف وخرج مبتعدا.
 

بقيت الشظية فى رقبته، تذكارا من أول مذبحة يحضرها الفتى، نعم أطلقوا عليها لاحقا "مذبحة سيدى جابر"، رغم ذلك أصر على الذهاب مرة أخرى لرابعة، كان رمضان على الأبواب، هالة من السكينة بدت تحيط الميدان بغلالة رفيعة، بدا لديه في الأفق نورا، الصلاة التى كان لا يطيقها انتظم فيها رويدا رويدا، الصيام فى الحر والقيام فى الليل، القرآن بعد الفجر والدعاء مع الدكتور خالد أبو شادي في الوتر، أذكار الصباح والمساء والأوراد التي تذكره بمجلسه في المسجد مع الأستاذ حسن همام عندما كان صغيرا ومطيعا يحصد المراكز الأولى في مدرسته "زهراء المدينة"، الصحبة التي يخجل أحيانا معها من أن يشعل سيجارة أو أن يقول لفظا فاحشا، مر زمان على ذلك الطفل الصغير.

"ليلة رائحتها الجنة سلااااام".. كان هذا آخر ما قرأه على فيسبوك قبل أن ينام ليلة الثالث عشر من أغسطس لصديقه مدني المصاب فى مجزرة الحرس الجمهوري، في صباح اليوم التالي كانت الأخبار تتوالى، استشهد محمد مدني، واستشهد أيضا الأستاذ حسن همام، كانت أنفاسه تتصاعد وهو يتابع أسماء الشهداء تترى، الدعوات تنتشر للتجمع في القائد إبراهيم، انطلقت منه المسيرات حتى وصلت الشاطبي، هناك بدأت الاشتباكات، حرب شوارع حقيقة، كر وفر، وخرطوش وغاز وأعيرة نارية يسمعها لأول مرة، لم يفت اليوم دون أن تستسقر فى ظهره ويده بعض خرزات الخرطوش الحديدية مرة أخرى.
 

بعد بيومين كانت جمعة توديع الشهداء، خرج يحمل جثماني صديق وأستاذ، الهتافات تهدر في الشوارع، تكاد تصل الجموع لميدان علي بن أبي طالب فى سموحة، هنا أمطرت السماء غازا، وقطع صوت الرصاص صيحات الهتاف، ولمع رنين سيوف البلطجية قبالة نفق الإبراهيمية، وظهرت من خلفهم مدرعات الجيش والشرطة، طلقة أخرى تصيب صديقا آخر، كان أسامة السيد بجواره عندما انفجرت رأسه مبعثرة الدماء على الأرض وعلى قميصه، وعلى جدار البنك الذى حاولو الدخول والاحتماء به، خمسة وعشرون شخصا وخمسة ميتين، يجلسون على بركة من دمائهم ولا من منقذ أو مسعف، ساعة أو اثنتين، وتم حصار المكان تماما، ألقي القبض على الجميع، الأحياء منهم والأموات.
 

الدماء مرة أخرى تغرق قميصه، هذه المرة ليست دماء أحدهم، بل دماء قطع فى رقبته من مطواة تطوع أحد البلطجية الثائرين أمام البنك بأن يغرسها فى جيده ويحدث جرحا لَأَمه الطبيب لاحقا بتسع غرز، هكذا تركت مجزرة سموحة تذكارا آخر في رقبته أيضا.
 

175 شخصا، هذا هو العدد الذي سجلت به القضية 175، وأربعة قصر خرجوا من مبنى المديرية بلا عرض على النيابة، بعد ليلة كاملة اعتدى فيها الجميع علينا بألسنتهم وأيديهم وأرجلهم سبا وبطشا وركلا.
 

لم تهدأ المظاهرات والمسيرات في الأسكندرية يوما، كان ضيفا عاديا على أغلبها، يعبث مع الأمن أحيانا، يفر مراوغا أحيانا أخرى، ينتهي من المسيرة، يحتسى كوبا من عصير البطيخ عند "عصائر مكة" ثم يذهب إلى أصدقائه الآخرين في "قهوة الفراعنة " ويسهرون حتى الصباح.
 

يوما ما كان عليه الاستيقاظ مبكرا لمسيرة قالوا عنها إنها تبدأ في السابعة صباحا، وصل إلى مكان المظاهرة ليجد ذلك المشهد، أمهات وفتيات يُقتادون إلى عربات الشرطة، لقد كان المشهد الأقسى عليه من كل ما فات تقريبا.
 

فى هذا اليوم دفن رأسه بين ركبتيه المرفوعتين فى محاذاتها وهو جالس على السرير وسمح لدموعه أن تزرف، شظية الخرطوش وجرح التسعة غرز فى رقبته لم يبكيه، دم أسامة الذي سال على قميصه وهما يشيعان مدني والأستاذ حسن لم يبكيه، كانوا رجالا أفضوا إلى ما قدموا، لكنه هناك تحديدا لم يستطع فعل شىء، وترك الفتيات يواجهن مصير السجن الذي جربه لليلة واحدة، وهو هنا بعد ساعات سينام في فراشه الوثير.
 

في أول يوم لعرضهن كانت الصور تملأ الصفحات، كان يظن من بين كل البشر أن نظرات هؤلاء المزدنات بالأبيض لا تقصد إلاه، كان يجهل الطريق الذي يمكن أن يحررهم به، أو بالأحرى يحرر نفسه من فكرة خذلانهم، سوى التظاهر مرة أخرى، والإمساك بالكاميرا في وجوههم مرة أخرى على أمل أن ينقشع هذا الكابوس يوما، أو أن يلحق بهم.
 

انتفض جسده النحيل انتفاضات عدة خيل إليه أنها نهاية عمره وهو معصوب العينين يشعر بشحنات كهربائية لاسعة تُدفن تحت باطيه لتدق في كل عظام جسده

مظاهرة أخرى عادية في يوم جمعة بسيدى بشر، كمين يقف بعد انتهاء المظاهرة عند مبنى الحى يوقف مهند وفادي، تفتيش حقيبة ليس فيها إلا شاحن الهاتف وطاقة رأس ثقيلة لليل ديسمبر البارد و.. وغلاف هاتف عليه شعار رابعة.
 

قبض عليهما، بدأت حفلة الضرب منذ اللحظة الأولى التى دخلا فيها إلى عربة الترحيلات، ظلوا في العربة إلى الساعة الواحدة ليلا حتى اكتمل عددها خمسة وثلاثين شخصا، طافت بهم قليلا ثم استقرت أمام مديرية الأمن.
 

كانت المرة الأولى التي يُحقق معه ضباط أمن الدولة، كان يسمع بالطبع عن التعذيب في تلك الأقبية، لكنه لم يكن له أى دور ولا مسؤولية حتى يتوقع أنهم سيحتفون به، ربما أقرانه الذين يشعلون النار فى بعض سيارات الشرطة أو تكون لديهم مسؤولية تأمين الشماريخ للمظاهرات، لم يكن لديه أى مهمة ما، يشارك فقط، لكن كل هذا لم يعفيه أبدا. انتفض جسده النحيل انتفاضات عدة خيل إليه أنها نهاية عمره وهو معصوب العينين يشعر بشحنات كهربائية لاسعة تُدفن تحت باطيه لتدق في كل عظام جسده.
 

بعد الانتهاء أدخلوهم جميعا فى زنزانة انفرادية. كان على الشاويش أن يدفع بالمحتجزين إلى الداخل حشرا حتى يستطيع إغلاق الباب، بتنا الليلة الأولى وقوفا، ربما من حظنا أنها ليلة شاتية وإلا كنا متنا من الحر والعرق، تذكر ما كان يحكيه أستاذه حسن عن أهوال يوم القيامة والعرق الذي يصل للأنوف، كان يشعر لوهلة أن الصبح لن يشرق إلا وهذا المشهد متحقق.
 

فى الصباح انتقلوا إلى الزنزانة المقابلة التى كانت أرحب، هكذا ظن فى البداية، لكن بنظرة واحدة على العدد الهائل داخلها عرف أنه لن يستطيع النوم كما كان يظن بعد الليلة الطويلة الماضية، الأرض قذرة من فضلات الطعام والشراب ورائحة الأبدان والملابس العفنة، الحوائط مكتظة بالمسامير المعلق عليها أكياس فظة ممتلئة بما تبقى من طعام أو هندام نظيف أو غرض ما يخشى عليه من وطأة بالأقدام، والسقف تقريبا هو المكان الوحيد الخالى إلا عندما يأتى الليل فيغرق بدخان السجائر والحشيش وكافة أنواع المخدرات، مرحبا بكم أنتم فى زنزانة الجنائيين.
 

– أنت متهم بقتل مجندين، ما قولك
– نعم صحيح قتلتهم منذ أيام فى لعبة Cross Fire
حاول مهند، ولكنه لم يستطع أن يتخلى عن روح سخريته من كل ما يحدث، قام وكيل النيابة من مقعدة ولكمه بيده، لم يصدق المحامي عندما أخبره مهند أن وكيل النيابة ضربه ثلاث مرات في التحقيق، لم يحدث هذا من قبل مع أى شخص كيف هذا،
– أبدا، ربما ردودي استفزته بعض الشيء، يقول مهند بنفس نبرة المزاح التي لا تفارقه.
 

إلى الإحداثية في "كوم الدكة" تحول مهندٌ لأنه ما زال قاصرا، هناك كان بعض من الرفاهية عن الحبس فى القسم والمديرية، عنبر به 17 شابا ويصل إلى 40 فى أسوأ حالاته، كان المكان ملجأ للأيتام قبل أن يتحول إلى سجن للقاصرين، العنابر تطل على حوش واسع للتريض تتوسطه سارية صدأة يرفرف فوقها علم بالٍ، الأيام تمر كقطعة العلم البالية، يعبث السجانون من ضباط حديثي التخرج وحراس شاويشية بهؤلاء الفتيان كما تعبث الريح بالعلم البالي، إهانة وسب يومي، تعذير لأتفه الأسباب وأهونها. يوما ما كان مهند يزحف بجسد عار على البلاط وسط ماء متسخ مجلوب من دورة المياه، لأنه ضُبط مستيقظا بعد وقت النوم المفروض.

لكن المفروض بالنسبة لنحلة -هكذا كان يدعوه أصدقاؤه، وهكذا كان شكله قريب الشبهة بالشكل الكارتوني للنحلة- المفروض مرفوض في الكثير من الأحيان، المفروض الذي يجعل منه ومن زملائه بائسين منكسري النفوس عابسين مفطوري القلوب؛ كان معكوسا لديه، فهو دائم التندر وإلقاء النكات والعبث مع السجانين وتحدى كل الأوامر والتخلص من كل المواقف بمزاح يفلته أحيانا من العقاب وأحيانا أخرى يفشل من الإفلات.
 

ليلة واحدة هي التي بكى فيها أشد البكاء، أخبرته والدته فى الزيارة أن أختها ماتت، كان يحب خالته ربما كما لم يحب أمه من قبل، صارعت المرض الخبيث حتى صرعها، بدى لديه السرطان ليلتها كريها أكثر من الشاويش عبد الرازق نفسه، وتمنى لو يقتله أكثر من تمنيه قتل الثلاثة الذين عذبوه في ليلة الأمن الوطني.
 

لم تكن سوء المعاملة في كوم الدكة هي نهاية المطاف بالنسبة للأحداث، فهناك تهديد بعقاب أشد لكل من يعصى أو يتمرد، إنه النقل إلى "العقابية"، فرع الأحداث الرئيسي في العاصمة، القصص التي تُحكى عنها تكفي كي يبيت كل المذكور أسماؤهم في الترحيل غدا ليلة عصيبة، بذل فيها مهند كل طاقته فى أن يهونها عليهم، بلا فائدة فقرر أن يقنعهم بالثورة.
 

كل يوم يمر كانت حالته تسوء، إبر خفض الحرارة المهربة إليه لم تعد تجدي، حرارته مرتفعة دائما

وقف المعاملة السيئة وسرعة الإفراج عنا وعدم نقل أي حدث إلى العقابية من الآن، أغلقوا الباب عليهم وأعلنوا مطالبهم، كان مهند يقود الثورة ويعلن المطالب، فزعت قيادات الحجز للدرجة التي جعلتهم يطلبون إمدادا من مديرية الأمن جاءهم بتشكيلات وعربات إطفاء وعلى رأسها ذلك الكريه ناصر العبد، إنه مدير المباحث الجنائية ذى الشارب الثخين بنفسه.
 

رُفعت الهراوات والخراطيم وصبت على رؤوسهم صبا، لم يسلم أحد، تقرحت الوجوه وتورمت الأجساد من الضرب، ودُفع بالفريق المرحّل إلى العربة الحديدية دون أمتعتهم، توجهوا مباشرة إلى المديرية ومنع عنهم كل شيء بما فيها الزيارات.

لم يستسلم أحد، بدأوا إضرابا مفتوحا عن الطعام، وكان أول إضراب لأحداث فى مصر، أوفدوا لهم اللواءات والرتب الكبيرة تترا لمحاولة إقناعهم بالعدول عن إضرابهم دون جدوى.
 

الأيام تمر ويوما بعد يوم يصبحون عبئا على الجهاز الأمنى للدرجة التي قرروا فيها إطلاق سراحهم جميعا تخلصا من صداع مزمن، حدث ذلك بعد 18 يوما فقط من بداية إضرابهم، تحديدا فى تلك الجلسة في أول إبريل، أفرجوا عنهم جميعا بكفالات متفرقة. تحسنت المعاملة قليلا في "كوم الدكة" ولم يعد يرسلون أحدا إلى العقابية أيضا.
 

المطار.. المضيفات.. مصر من نافذة الطائرة.. إسطنبول والفاتح.. المتروباص والدونر.. تقسيم وايمنونو.. البوسفور وطيور النورس.. البقلاوة التركية والشيشة، كل ذلك كان باهتا لا حياة فيه هنا فى تركيا، سافر ظنا منه أن الاستقرار هناك وارد ككل الذين هربوا من جحيم مصر، لكنه لم يلبث أن عاد مرة أخرى، مطالعة أخبار المعتقلين وصورهم كل يوم كافية لتقلب عليه كل نعيم. كان لا زال لديه بعض الأمل أيضا.
 

فى مقهاه المعتاد كان ينتظر عمر، ينفث الدخان ويتبرم من الحياة "عايز أجاهد بأه يا شيخ". ينظر له صديقه بسخرية يعرف مغزاها، طالما أراد مهند أن يجاهد، وطالما ذكره عمر بأن الجهاد يبدأ من تلك التي يسحب منها الدخان إلى داخله، فلتجاهد داخلك أولا، هذه المرة وجد مهند يعده بأن يترك التدخين، وربما أكثر من ذلك، وأن يحافظ على نفسه، كانت رغبته أقوى من كل مرة، يتذكر أيام رابعة في رمضان، العطش والحر والصيام والدعاء والقيام. يعزم على ألا يعود إلى ما هو عليه.

فيلمنج، شارع مبنى الإذاعة، وأجواء يناير، هذا كثير يا شباب ألا تلاحظون، هتف مهند في وجه أصحابه بعد أربعة أعوام من شهودهم لحظة التنحي هنا في نفس المكان، اليوم هم يحضرون دروس الثانوية العامة المخيفة، وينتظرون مظاهرة من عشرات المظاهرات التي شاركوا فيها بعد انقلاب على تلك الثورة الفائتة.

يد غليظة تمسك بذراع مهند وأخرى بمجدي، وآخر يصوب مسدسه في وجوههم: "بطايقكم"، هكذا تحدث بغلظة صاحب المسدس وعيناه تطلق الشرر، فتشوا الجميع فلم يجدوا سوى الكتب الدراسية، أودعوهم عربة الشرطة وانتظروا مزيدا من الصيد بعد أن عرفوا أن مظاهرة ستنطلق من هنا، كانوا في انتظار كل من يأتي.
 

كان مهند مهيأ نفسيا هذه المرة للإهانة.. الضرب.. التعذيب والكهرباء، لكن أمرا حدث كان أبشع، لا يريد أن يتذكره حتى، يريد أن تسقط هذه الليالي من ذاكرته نهائيا، تذكرها وحده هو الذي يمكن أن يدفعه إلى الانتحار أو الجنون، لم يكن تعذيبا جسديا، ولكنه كان تعذيبا جنسيا، لم يكن تجريدا من ملابسه كلها فقط، ولكنه كان تجريدا من أي معنى إنساني يستطيع أن يستبقيه في نفسه بعد ذلك.
 

كلما أغمض عينيه يحاول ألا يتذكر، كل ما فعلوه به كان وهو مغمض العينين مقيد معلق تشتعل شعراته الصغيرة النابته فى وجهه فيتقي دخانها الصاعد لأنفه فيقهقه أربعتهم من حوله، يمكنه الآن أن يتساءل بسهولة عن هؤلاء البشر، هل هم مسلمون؟ هل هم حتى آدميون؟ هل هذا ما يُفعل كل يوم في سجون سوريا كما سمعت من عمر؟ هل من أجل هذا يذهب الشباب ليجاهد هناك؟ هل أكتفي يوما ما بقتل هؤلاء الأربعة لو كان الأمر بيدي؟
 

لا فائدة من كل هذا التفكير، عليه في هذه الزنزانة الضيقة ذات الثلاثين رجلا أن يجلس هو ونور الدين صديقه ويحاول فتح كتاب الرياضيات الذي أحضرته له والدته في آخر زيارة لاستجماع أي معلومات، فالامتحانات قريبة.
 

ثلاثة أشهر مضت هنا في سجن برج العرب المزري، بريد الأخبار الذي يصل فى ورقة صغير مدفوسة في كتاب أو مطوية داخل كيس صغير في علب الطعام وصل هذه المرة بخبر أفقده صوابه، لقد ذهب عمر إلي سوريا، جاهد لثلاثة أشهر ثم نال الشهادة، ذهب وتركه هنا يلاقي كل يوم أصناف الذل والهوان، ذهب وأفرغ رصاصاته فى أجساد الكفار الذين يذيقونا صنوف العذاب هنا وهناك، وأنا أسير بلا حول ولا قوة، اختاره الله ولم يخترني بعد، كل ما يفعله هو أن ينتظر وأن يكمل مذاكرة مادة العربي التي اقترب امتحانها.
 

سيدي القاضى موكلى مريض بسرطان الدم ونسبته وصلت إلى 93% كما هو موضح في تقارير المستشفى، ويعالج بالكيماوي منذ ثلاثة أشهر

هذا هو اليوم الرابع على التوالي الذي يلقى فيه مهند بكل ما في جوفه بمجرد أن ينتهي من طعامه، الآن تلفظ أمعاؤه مجرد شربة الماء، مستشفى السجن لا تبعد عن زنزانته سوى عشرة أمتار، حرارته بدأت في الارتفاع، وقف صديقه حربي وسط الليل يصرخ من "النضارة" حتى يأتي إليه من يسعفه، صاح به الحارس أن عليه الانتظار للصباح.
 

فى ساعة التريض حاول مهند أن يقنع طبيب السجن بالكشف عليه، رد بجفاء أن عليه إبلاغ الإدارة أولا حتى يسمحوا له بالكشف، كل يوم يمر كانت حالته تسوء، إبر خفض الحرارة المهربة إليه لم تعد تجدي، حرارته مرتفعة دائما، وطعام أمه الذي تأتي به كل زيارة لا يصيب منه إلا زملاؤه، بعد مرور أسبوع لم يكن يقوى على القيام للصلاة، في الأسبوع الثاني لم يعد يقوى على الذهاب للحمام وحده، في الأسبوع الثالث فقد كل الماء فى جسده، ولا يستطيع أن يقوى على أن يقلب جسده وهو نائم، لماذا لا يسمحون بالكشف عليه فى العيادة وقد أصبح هيكلا عظميا، هل هم كفار أيضا مثل الذين عذبوه.
 

فى نهاية الأسبوع الثالث فُتحت الزنزانة ونادى الحارس: مهند إيهاب، مستشفى السجن تطلبك، أخيرا سيتفحصه أحدهم، قطع العشرة أمتار يتهادى بين رجلين حتى وصل إلى هناك، رقد أمام الطبيب الذي فتح عينيه نصف فتحه وأخذ ينظر إليه بلا حراك ثم قال: تيفود. أمسك الورقة والقلم ودون بعض الأدوية ثم طلب من الحارس أن يأخذه.
 

كانت الحالة تسوء أكثر، وفي كل مرة يذهب للطبيب المضحك ينظر إليه من بعيد دون أن يكشف عليه، ويقرر أن يعيد التشخيص مرة أخرى، هذه المرة قال إنه فيروس A والمرة السابقة كانت أنيميا.. بعد محاولات عدة وافقوا على سحب عينة من الدم وإرسالها للتحليل، كان المتبقي على امتحان الكيمياء يومان، الامتحان قبل الأخير في رحلة عذاب مضاعفة اسمها الثانوية العامة علمي رياضة من السجن.
 

بعد الامتحان بيوم وافقوا على نقله للمستشفى الأميري، سرير باهت البياض بحديد على جانبيه، زى طلاء أخضر قديم، أول سرير ينام عليه منذ 6 أشهر، أول ليلة لن ترتطم رأسه بقدم أحدهم، أو ينام على شقه حتى لا يلامس من بجواره، لكن كل هذا لم يمثل شيئا فجسده لا يكاد يشعر به من الهزال والضعف، ورغم هذا فيديه مقيدة بالكلبش فى السرير، لا يستطيع الحركة، ربما يخفف عنه أن الأستاذ عصام خيري معه فى نفس العنبر، لا زال يتذكر مرافعته فى المحكمة يوم أن تم إخلاء سبيله فى اعتقاله الثاني، شاب ثلاثيني عرف أنه مصاب بالسرطان مبتسم دائما ويمازحه باستمرار، يتساءل مهند هل هو مصاب بالسرطان أيضا، لا يعرف لم يخبره أحد بشيء.
 

في بهو قاعة المحكمة المتداعية يجلس على كرسى متحرك يجلس أمام منصة القضاء، يفكر فى مسألة لغز شعره المتساقط، هناك علاج صعب يأخذه يوميا لا يعرف ماهيته، حضر إلى هنا مرتين على نفس الكرسي وفي كل مرة يجدد القاضى له 45 يوما، لم يعد لديه مزيد من الصبر، يريد أن يذهب إلى أى مكان غير ذلك المستشفى اللعين الذي يشعر فيه أن كل يوم أسوء من الذي قبله، يده التي رسم الطوق على معصمها خيطا غائرا، وأمين الشرطة الذي يقبض كل يوم 100 جنيه حتى يسمح لأحدهم أن يعاونه في الذهاب للحمام، ومحمد بيه عز الذي يهابه الجميع ولا يجرؤون على فك قيده ولو لتناول الطعام بسببه، كان يصيح في الحارس بلا سبب واضح: على مثل هؤلاء أن يقيدوا حتى وهم نائمون.
 

حضر المحامى وبدأ مرافعته، حفظت الكلام المكرر، لكن جملة اخترقت سمعي هذه المرة "سيدي القاضى موكلى مريض بسرطان الدم ونسبته وصلت إلى 93% كما هو موضح في تقارير المستشفى، ويعالج بالكيماوي منذ ثلاثة أشهر"، عرفت الآن سر تساقط شعري، عرفت في هذه اللحظة أنني مصاب بالسرطان، وضعت والدتي يدها على فمها وكتمت دموعا كانت تحجبها كما حجبت عني سر مرضي، في هذا اليوم أخذت إخلاء سبيل.

18 يوما إضافية في المستشفى ولم يطلقوا سراحي، بنفس القيد، وبنفس فظاظة محمد بيه عز الذي حاول أن يعيدني مرة أخرى إلى السجن رغم أني لا أقوى على القيام من مكاني، في اليوم الثامن عشر، دخل أحدهم ومال بأذنه على الحارس، توجه إلي وفك الكلبشات، تحسست معصمى فى صمت، وانتظرت قدوم من يأخذني من هذا المكان.
 

الحالة متأخرة، مر عليها شهران بلا علاج.. نريد أن نزرع نخاعا لكن الجسم لن يستجيب.. ربما فى الخارج.. كانت هذه هي ردود المستشفيات في مصر، صفى والده شركة العقارات ومحل الملابس حتى يستطيع أن يسافر معه هو ووالدته إلى نيويورك، المكان الوحيد الذي قد يجد علاجا لحالة ابنه.
 

مانهتان، تلك المدينة الكبيرة، هنا سيبدأ رحلة طويلة فى العلاج، السرطان الذي وصل إلى مخه ونخاعه لا يريد الاستسلام بسهولة، جرعات الكيماوي لا يتأثر بها، علاج جديد يجاذف ويجربه على نفسه لأول مرة، إذا لم يتم الاستجابة سندخل فى مرحلة الإشعاع، يقول الطبيب وهو يرثى لحاله ويتأثر، لم يلمح مهند أي علامات للتأثر أو التعاطف على وجه الأطباء أو الممرضات في مستشفى "الميري" كما يلحظ هنا، أمور كثيرة تتغير.
 

الثورة التي فى صدر الفتى الذي يقف على أعتاب عامه التاسع عشر لا حدود لها، كان فتا تائها وكل ما حمله على هذا الطريق هو فقط إيمانه بأن عليه ألا يقف مع الباطل وألا يصفق للظلم، هو حق دماء أصحابه، ودموع المعتقَلات، لكنه خرج من هذه المحنة خلقا جديدا.
 

كان يخبر طبيبته النفسية أنه يؤمن بالله، وعليها أن تؤمن به حتى لا يعرف الخوف ولا اليأس طريقا لقلبها

هو يريد أن يعيش اليوم ليكون من الفتية الذين يراهم سيد قطب بعين الخيال، يجاهد ليجعل كلمة الله هي العليا كما جاهد أبو مصعب الزرقاوي، يبكي عندما يسمع من منصور السالمي سورة التوبة ويأتي على "إلا تنفروا يعذبكم" يتذكر كلمات عبد الله عزام في الكتاب الذي يفتح ملفه على جهازه اللوحى "العقيدة وأثرها في بناء الجيل المسلم"، هل كان قبل ذلك مسلما حقا!
 

شهور تمضي به فى مانهاتن، يقرأ عن الجهاد ويحضر جلسات الكيماوي، يتابع أخبار الفصائل الجهادية في حلب وسيناء ويذهب للتنزه في سنترال بارك، يحمل الكاميرا ويصور أي شيء، يصلي خلف الشيخ مرزوق في الجامع القريب منه، يسافر إلى ميامي مع صديق جديد، يمتطي لوح التزحلق ويطلق ذراعيه للريح وفي اليوم التالي يستلقي على ظهره مستسلما لحقن الدماغ الفظيعة.
 

يحار أحيانا في فهم لورين وكاتلين وبريجريني وباقي طاقم الممرضات، كيف يحبونه كل هذا الحب، أوليس هؤلاء كفارا يحملون جنسية أمريكا، ذلك الشيطان الأكبر، يحاول أن يقارنهم بالممرضات في مصر، يتذكر أن محاميه عصام رفيق مرضه مات بعد أسبوعين من وصوله هنا، كان العلاج في مصر يزيد من نشاط خلاياه السرطانية ولا يحد منه، ربما هؤلاء أولى بالإسلام من غيرهم، يحاول أن ينحي كتاب شريعتي قليلا ويبدأ في الاستماع إلى أحمد ديدات وذاكر نايك.
 

في الطريق إلى كوبا كان معاذ ينشد، صوته يطرب مهند لكن الكلمات لا يحبها، "معاذ ألا تعرف سوى هذه الأغاني"، يا شيخ هذه الدنيا لا تسير بالحب والدروشة، العالم صعب جدا، لا يعترف إلا بالقوة والبطش، غني مثلا:
وأميَ يا أمي كفاك بكاء فدينك يعلو وكل هراء .. وعرضي استبيح وما من رجاء سوى بإلهي مجيب الدعاء .. رضيعي تمزق صوت الإباء فكل يردد صوت الغناء ..
 

يعرف معاذ -الذي لم يمر على معرفته بمهند إلا شهرا واحدا- ما قاساه مهند في رحلته الطويلة، لذا لم يكن يعجب من حدة أفكاره وتصلبها، ورغم أنه ما زال يحتفظ بروحه المرحة، وبنكاته التي لا تتوقف، وبرسائل الفتيات اللاتي يغازلنه على آسك وواتس آب وهو لا يجيب، إلا أن فكرة الرصاص الذي هو دواء الكفر الوحيد لا تبارح مكانها.
 

لكن مهند لم يبحر كثيرا في هذه الفكرة بعد، ولم يصمد كثيرا أمام بعض الأفكار الصغيرة التي بدأ معاذ في تفنيدها له، كان يعرف أن نقطة ضعفه دائما هو طبيبه والممرضات الذين معه في مستشفى مانهاتن، هل هؤلاء يستحقون أن نحاربهم؟ ربما جنود أمريكا التي تحارب في العراق، لكن هؤلاء يستحقون أن ندعوهم. والآخرون المسلمون الذين يؤذوننا أيضا لا نبسط أيدينا لهم إذا هم بسطوا فنكون سواء!
 

كان مهند يفكر في الكلام طوال الطريق ويضعه مع آخر محاضرة سمعها بالأمس لذاكر نايك، لم يتبقى على كوبا كثيرا، هذه آخر جزيرة في الولايات، وعليهم أن يتزودوا ببعض القهوة والمأكولات، نزلا وتعرفا على شخص في المطعم كان يجلس بجوارهما، عرفوا من حديثه أنه لا ديني، كان معاذ يناقشه حتى ضاق بكلامه المسيء لفكرة الإله، نظر إلى مهند فوجده مبتسما يحاول أن يستأنف الحوار مع الرجل بحماس، ويأخذ بريده كي يرسل له بعض الكتب عن الإسلام.
 

كان (النفير) هي الكلمة السحرية التى يبدأ بها مهند كلما سأله أحدهم ما الذي تحلم به، ربما بعد هذه الرحلة اختلف كثيرا، كان يضع هذه الجملة لم يسأله الآن عن خططه إذا شفاه الله يوما "اكتشاف العالم بكل ثقافاته ومساعدة الناس إن استطعت".. بدأ يفكر في أن يقدم هنا فى جامعة قريبة، تحديدا قسم التمريض، تمريض مرضى السرطان خاصة، شعر أن عليه رد الجميل لطاقمه الطبي الذي لا يعرف كيف يشكره على كل شيء، ليس فقط الدواء والرعاية، ولكن أيضا الكلب الذي أتت به لورين الأسبوع الماضى كي يؤنسه في وحدته هذه.
 

طائر وحيد ساعة الغروب لا يظهر منه سوى ظلال سوداء خلف مصباح مطل على بحيرة سنترال بارك، كانت هذه الصورة التي التقطتها هنا تعبر عن حالته التي تسوء يوما بعد يوم، الوحدة رغم حضور والديه معه بجسديهما، الألم رغم كل المسكنات والمهدئات، السرطان الذي يسرى منه مسرى الدم في العروق، ساعات الصحو القليلة من النوم الطويل يشاهد حلقة لكونان أو يجيب على أسئلة خالد وأيمن ومزاحهما عن معجباته على آسك، يستفتي فتوح على الواتس كيف أصلى الآن وأنا لا أستطيع أن أحرك إلا عينيى فقط، يذكر الله ويكثر من الاستغفار عن الأيام الخوالي، يشغل مقطع القناص على ساوند كلاود ويغفى على صوت رشا رزق: قد لمعت عيناه بالعزم انتفضت يمناه.. فى هدوء الليل من هو الصامد المغامر في وجه السيل..
 

تجلس والدته على حافة الفراش، تنظر إلى الجسد النحيل الممد الذي تخرج وتدخل فى كل فتحة فى جسده خراطيم المشفى الموصولة بالأجهزة المحدقة في فتاها، فتاها الوحيد الذي أتى بعد طول انتظار، عشر سنوات وربما أكثر، وعندما حدثت المعجزة وانقلب الحال ها هي تراه يحتضر كل يوم، هل يموت؟
 

يفيق مهند من الغيبوبة قليلا، يرى دموع أمه من طرف خفي، يسامحها ويسامح والده في قرارة نفسه، لقد كان جرمهما أنهما لم يفهماه يوما، ربما سمع هذا من كل أصدقائه أيضا، يحاول أن يعد نفسه أن يقترب منهما إذا قام من رقدته، يخاف من الفكرة نفسها، فكرة أن يقوم من هذا المرض.
 

كان يسأل نفسه أحيانا ماذا لو لم أُبتلى بالسجن ثم المرض، ربما لكنت الآن أشرب البانجو أو أشم الهروين في مكان ما في ميامي، بلا مبالغة، ماذا لو عوفيت إذن، أخشى أن أعود مرة أخرى، لقد تركت كل شيء، حتى أنني تركتها هي بعد 4 سنوات من الحب، لا أعرف هل تركتها لأنني فعلا تغيرت وتغيرت أفكاري وما كنا فيه ليس حبا، أم لأنني أشفق عليها من أن تتعلق بي أكثر من ذلك ثم أتركها، على كل حال هي ما زالت على عهدها، أنا أعرفها أكثر من نفسي، لكنى لن أعود.. لن أعود.

تدخل لورين لتأخذه لغرفة العمليات، عملية أخرى حتى يستطيع جسده أن يخضع للعلاج، تخبره أنها قابلت الطبيبة النفسية في الخارج وأنها رفضت أخذ أجر من المستشفى، قالت إنها جاءت لتدعمه نفسيا قبل العملية، لكن ردوده دعمتها نفسيا وأثرت فيها، كان يخبرها أنه يؤمن بالله، وعليها أن تؤمن به حتى لا يعرف الخوف ولا اليأس طريقا لقلبها.

مهند مات.. رغم أن الجميع كان مستعدا، إلا أن الجميع دهسته المفاجأة، العشرات من أصدقائه الذين ما زالوا في برج العرب، وأولائك المشردين في فيافي الأرض

أثر البنج بدأ يرخى جسده، وجه عمر الشهيد يقفز أمام عينه، أسامة.. الأستاذ حسن.. خالته.. الأستاذ عصام.. عبد الرحمن.. يريد أن يحتضنهم جميعا، يتذكر أنه يريد أن يعيش أيضا، يطول شعره من جديد و يجهز حقيبة سفره كاميرا 7D من الفئة الثالثة وشاحن وشورت ووسادة الرقبة الخاصة بالمواصلات وجواز سفر ومنشفة وسترة ثقيلة والزمزمية وبعض أقراص المسكنات واللاب توب ومفكرة ومصحف صغير وحذاء احتياطي ومزيل عرق ونقود من عمل حر، كتلك التى كسبتها وأنا في ابتدائي، أول 15 جنيها في حياتي.. سأسافر وأزور فتوح في برلين وإسماعيل فى إسطنبول، وأقصد عمرة فى مكة، وأحجز تذكرة إلى فلسطين بدلا من تذكرتي الأخيرة لميامي..
 

ربما لن أعيش طويلا حتى أفعل كل ذلك، ربما علي أن أعود يوما واحدا إلى الأسكندرية أطير الطيارة الورق من فوق سطحنا وألعب مباراة أخيرة مع "العيال" في الشارع، أشرب آخر كوب من عصير البطيخ وألعب آخر بولة استميشن مع بندق وخالد وحربي على قهوة الفراعنة.. أفتح الزنازين بعصا هارى بوتر السحرية، أرتدي زى الرجل الوطواط وأضرب الرصاص في قلوب مجرمي "جوثام"، أمسح الدم من الشوارع، وأقتل بشار الأسد وأموت..
 

مرت أيام قليلة على عيد ميلاده العشرين، عملية أخرى، مخدر آخر، هذه المرة لا يرى أحلاما، بل يرى شريط عمره يمر، هل هذه آخر عملية؟ صوت القرآن جواره يذكره بأول من علمه التجويد في حلقات الأشبال، الجامع، المدرسة.. يستمر الشريط، يسقط يسقط حسنى مبارك، القهوة، الدخان المتصاعد من فمه، الداخلية كلاب سعرانة، المذابح، بورسعيد، رابعة، سيدي جابر، سموحة، حي حي.. خرطوش.. القنبلة نازلة، كلابشات، تعذيب، كهرباء، كل أنواع الشتائم، هاجر، 4 سنين، سافر، زنازين، المديرية، القسم، كوم الدكة، العقابية، برج العرب، محكمة، تأجل، تجديد، 45 يوم على ذمة القضية، رفعت الجلسة، مستشفى السجن الميري، مانهاتن، نفير.. دعوة، حقن كيماوي، جلسات تحاليل، "نبض.. النبض توقف، النبض توقف".. هكذا صاحت كاتلين
 

مهند مات.. رغم أن الجميع كان مستعدا، إلا أن الجميع دهسته المفاجأة، العشرات من أصدقائه الذين ما زالوا في برج العرب، وأولائك المشردين في فيافي الأرض، وأولائك الواقفين على نواصي الثورة في حلب وتعز وغزة، جيل كامل بعمره، عشرون عاما، فتح عينه للحياة على صخب 2011، وقضى نصف عقد ينزف ويجاهد ويعذب ويشرد ويحلم بما لا يُحقق إلا في عشرين دهرا، قصص من قصص تُتْلى، وجيل من جيل يستلم، نم في سلام يا مهند، فأنت لم تعش هنا عشرين عاما فقط.. لكنك عشت عشرين دهرا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.