شعار قسم مدونات

ثورة أكتوبر السودانية التي أرعبت جمال عبد الناصر

A protester holds up a poster with an image of former Egypt president Gamal Abdel Nasser during the anniversary of the 1952 Egyptian revolution at Tahrir Square in Cairo July 23, 2012. REUTERS/Mohamed Abd El Ghany (EGYPT - Tags: POLITICS CIVIL UNREST)
الكثيرون لا يعرفون عن هذه الثورة السودانية الكبرى في 21 اكتوبر 1964م التي أسقطت حكومة الجنرال إبراهيم عبود، والتي تلاحم فيها الشعب السوداني بمختلف أطيافه وأعراقه وألوانه وأديانه في حدث غريب وفريد على منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا في الستينات، والتي كانت تعتبر الانقلابات العسكرية ثورات شعبية، خرج الشعب السوداني ليسقط الحكم العسكري المباشر ويرجع الجيش لثكناته في وعي يتجاوز كثيراً وعي كثير من الشعوب العربية في ذلك الوقت، والتي كانت تصدق "الثورات العسكرية الكاذبة"، وتصدق كل من قال لها وحدة وحرية واشتراكية.
 
كانت جميع المستندات الموجودة في السفارة المصرية بالخرطوم تؤكد أن جمال عبد الناصر وحكومته كانوا على اتصال بالضباط الذين يريدون الانقلاب على الثورة

تبدأ قصة هذه الثورة العظيمة مع قيام قوات الأمن باقتحام حرم جامعة الخرطوم لتفريق ندوة بعنوان "المعالجة الدستورية لمشكلة جنوب السودان" بعد أن هاجم المشاركون في الندوة النظام العسكري واتهموه بخلق الفتنة بسياساته الحمقاء في جنوب السودان، وفي اليوم التالي اجتمع الطلاب وقرروا القيام بمظاهرة داخل حرم الجامعة رفضا لتعدي قوات الأمن على الجامعة مع تقديم مذكرة لمدير الجامعة ولوزير الداخلية يطالبون فيها بحماية الجامعة من الاعتداءات الأمنية، ولكن النظام العسكري "الغبي" قام باعتقال لجنة الطلاب التي تقدمت بالمذكرة، وكانوا عشرة طلاب، فاشتعلت المظاهرات في داخليات الطلاب، وأثناء محاولة النظام فض تظاهرات الطلاب قتل الطالب أحمد القرشي برصاصة طائشة وكان مقتل القرشي شرارة الثورة.
 

تضامن طلاب معهد المعلمين والمعهد التقني وطلاب المدارس الثانوية مع طلاب جامعة الخرطوم ونزلوا إلى الشارع رفض لقتل الطلاب، والمطالبة بحماية المؤسسات التعليمية، ولكن النظام أصر على عناده وأعاد محاولة فض تظاهرات الطلاب فانفجرت النقابات المهنية نقابة تلو الأخرى معلنة التضامن مع طلاب جامعة الخرطوم ومضربة عن العمل وداعية أعضاءها للنزول للشارع ، وفي يوم 24 أكتوبر كانت المسألة محسومة، لقد انضم المواطنون غير المسيسون (الغبش) للمظاهرات وأصبحت الحكومة تتخبط وتكابر، فمرة تدعو للتهدئة وأخرى توجه قواتها الأمنية لاستخدام القوة في فض المظاهرات.
 

وفي يوم 28 اكتوبر 1964م خرج بيان من مجموعة من ضباط القوات المسلحة يسمون أنفسهم "الضباط الأحرار" يعلنون فيه انضمامهم للشعب من أجل استعادة الديمقراطية والدستور، وعندها فقط أيقن الجنرال إبراهيم عبود رئيس المجلس العسكري أن مركبه يغرق وأن عليه القفز، فقام بالدعوة إلى حوار وطني دون شروط وتشكيل حكومة جديدة يكون هو جزء منها، وتم تشكيل حكومة جديدة في 30 أكتوبر برئاسة مساعد وزير التربية والتعليم سر الختم الخليفة، وتم إعطاء الأحزاب السياسية نصيب في الحكومة عسى ولعل أن يتم تهدئة الحراك الشعبي، ولكن تصرفات الجنرال عبود تمت مواجهتها برفض شديد من المؤسسة العسكرية السودانية والتي اعتبرتها إهانة لها أن تقبل بأن يشاركها المدنيون السلطة.
 

وزاد الطين بلة أن قوات الجيش قامت باعتقال الضباط الذين كتبوا بيان الضباط الأحرار، فنزلت الجماهير للتضامن معهم وتحت الضغط، رضخ الجنرال عبود لرغبة الناس وأفرج عن الضباط، فاجتمع الجيش بشكل سري لينقلب على الجنرال عبود وعلى حكومة سر الختم الخليفة وليجعلوها عسكرية صريحة تحت رئاسة القائم مقام بشير حسن بشير، وتدخلت إرادة الله فأفشلت المخطط، فمن دون أن يقصد قال الأمير لاي عثمان نصر عثمان في حفل استقبال للضباط العائدين من مناطق العمليات في جنوب السودان "إن الجيش قادم ليسترد دوره ويدافع عن نفسه قريبا ولن يستطيع إذلاله بضعة أفندية وصعاليك"، وقام أولئك الضباط بتسريب كلام الأمير لاي لأهلهم وذويهم وهم قاموا بنقل الخبر حتى أوصلوه لزعماء الأحزاب السياسية، وعندها اجتمع السياسيون بشكل سري واتفق الجميع على أن يقوموا بدعوة الناس لحماية الثورة من تآمر العسكر، وفوض الأحزاب المحامي الشاب فاروق أبو عيسى ليتحدث بالنيابة عنهم، وفي نشرة العاشرة مساء في إذاعة أم درمان فوجئ المستمعون بالسيد فاروق أبو عيسى وهو يدعو الجماهير للنزول والاحتشاد لإنقاذ ثورتهم من تآمر قيادات الجيش الذين رفضوا تنازلات عبود للمدنيين.
 

وعندها نزلت الجماهير بأعداد كبيرة واقتحمت مقر السفارة الأمريكية بعد أن كانوا متيقنين أن الانقلاب الذي يخطط له هو بالتنسيق معها، ونزل أعداد من الجماهير إلى مقر السفارة المصرية في الخرطوم وأحرقوها بعد أن قاموا بسرق المستندات التي بحوزتها، وكانت جميع المستندات الموجودة في السفارة تؤكد أن جمال عبد الناصر وحكومته كانوا على اتصال بالضباط الذين يريدون الانقلاب على الثورة وقاموا بتشجيعهم على هذا الانقلاب، ورغم محاولة الحكومة المصرية المتكررة إنكار أي صلة لها بمحاولة الانقلاب العسكري، وإرسالها لمجموعة من ألمع الصحفيين المصريين للخرطوم لتهدئة النخب السودانية الغاضبة، أحدهم كان محمود السعدني والذي كان الجمهور الذي يحضر ندوته في النادي العربي يريد أن يفتك به بعد أن كان أساء للمظاهرات الشعبية واعتبرها في مقال له في روز اليوسف عمليات شغب وتخريب، وسار معه على نفس الخط موسى صبري.

وأما محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام فإنه استنكر عدم إطلاق الجيش السوداني الرصاص بشكل كاف لقتل المتظاهرين، وكتب الآتي "لقد حدث صدام بين الجماهير السودانية وبين المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذى كان يحكم فى السودان، وكانت النتيجة فى صالح الجماهير حتى الآن، إن الجماهير السودانية حققت مطالبها الأولية ولكنها حتى الآن لم تفرض سلطتها فوق كل سلطة غيرها .
إن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والجزء الذى يقف معه من الجيش السودانى تردد عند لحظة الصدام الحاسمة، وآثر أن يبتعد بغير أن يدخل الامتحان النهائي؛ ربما ليحتفظ بقواه إلى فرصة مواتية.. أقول ربما"(1)
 

كان وجود نظام ديمقراطي يحقق لشعبه العدالة الاجتماعية ومعاداة إسرائيل سيشكل ضربة قاصمة للمشروع الناصري

ويقول في مقطع آخر من المقال "هل يبقى هذا الانقسام فى السلطة العسكرية؟ هذا الانقسام الذي فاجأتها أثناءه الجماهير فى لحظة غير مناسبة، ولم تستطع أن تستجمع قواها لتضربها، فجمعت حطام حكمها وتوارت عن الأنظار تلعق جراح خيلائها المضروبة، وتنتظر"
وبصيغة أدق: "هل يستطيع المجلس الأعلى السابق للقوات المسلحة أو عناصر منه، أو عناصر غيره قريبة منه، أو قريبة من فكره أن يجمع صفوف القوة العسكرية؛ استعداداً لانقضاض جديد؟"
 

وفعلا لقد كان لمحمد حسنين هيكل ما أراد، فلم تمضي أعوام حتى عاد ضباط الجيش السوداني إلى السلطة بانقلاب عسكري صريح يقوده الضابط جعفر نميري وبدعم مفتوح من النظام المصري الناصري، يصل إلى درجة أن تدخل سلاح الجو المصري وقام بقصف مواقع المعارضة السودانية في الجزيرة أبا في 1970م متسببا في مجزرة مروعة بلغ ضحاياها بين الألف والثلاثة آلاف قتيل(2).
 

قطعا لقد كان تعامل نظام جمال عبد الناصر مع ثورة أكتوبر بهذا الشكل الرديء والسيء هو نتيجة خوفه من انتقال العدوى إلى مصر، ولأن الإخوان المسلمين والحركة الشيوعية السودانية سيجدون حرية للعمل السياسي وللتجنيد، وربما لدعم أصدقائهم في شمال الوادي من نشطاء الإخوان واليسار، وإضافة لكل هذا لقد كان جمال عبد الناصر عبر إعلامه قد أقنع الشعب المصري بتناسي الديمقراطية لصالح تحسين وضعهم الاقتصادي ومحاربة إسرائيل، وكان وجود نظام ديمقراطي يحقق لشعبه العدالة الاجتماعية ومعاداة إسرائيل سيشكل ضربة قاصمة للمشروع الناصري؛ ولهذا فمن الغريب أن المملكة العربية السعودية دعمت ثورة أكتوبر بينما قامت مصر بمعاداتها والتآمر عليها، رغم أن حكومة ما بعد هذه الثورة المباركة هي التي عقدت مؤتمر قمة اللاءات الثلاثة وشعبها هو الذي استقبل عبد الناصر المهزوم في 1967م كأنه هو المنتصر في نكسة حزيران، وكان هذا الأمر لرفع روحه المعنوية يوم أن هزأت نيوزويك وقالت "إنها أول مرة يقابل فيها المهزوم بأكاليل الغار من جماهير أمته"
 

________________________________________
(1) يرجى العودة لمقال محمد حسنين هيكل في الأهرام يوم 6 نوفمبر 1964م و الذي هو بعنوان "ثم ماذا بعد في السودان"

(2)يرجى العودة إلى حديث الدكتور حسن الترابي في برنامج مراجعات على قناة الحوار اللندنية

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.