شعار قسم مدونات

خطورة معركة الموصل على حاضر العراق ومستقبل المنطقة

blogs - iraq

تقع مدينة الموصل في منطقة استراتيجية تمثل خاصرة لعدة دول (تركيا، وسوريا، وإيران)، نظرًا لقربها من حدود تلك الدول وما يمثله انتصافها في منطقة فيها عرقيات متعددة، لذلك استقرار تركيبتها السكانية يعطي المنطقة توازن مهم، واختلال هذه التركيبة يعني ضياع الاستقرار وخارطة جديدة للمنطقة.

جل سكان الموصل يتبعون للمذهب "السني" بنسبة تفوق 90%، وهي آخر معاقل السنة بالعراق ومركز تكدسهم، سقطت في يد تنظيم "داعش" في ١٠ حزيران ٢٠١٤، في مشهدٍ أقرب للتسليم منه للسقوط؛ حيث لم تبدِ القوات العراقية حينئذٍ أية مقاومة تذكر وتركت التنظيم يتغلغل ويسيطر على المدينة، وحسبما جاء في تقرير على "الجزيرة نت" فإن "مئات من مسلحي تنظيم الدولة يسيطرون بالكامل على مدينة الموصل، طاردين القيادات السياسية والأمنية والقوات الرسمية التي تقدر بثلاث فرق من الجيش والشرطة..مجهزة بأحدث ما أنتجته مصانع السلاح الأميركي".

شكَّل السلوك الطائفي المتطرف للحكومة العراقية التي يهيمن عليها أتباع المذهب الشيعي بيئة خصبة لنشوء حاضنة تتقبل التطرف.

إذن انسحبت فرق عسكرية وأمنية كاملة يقدر تعدادها بعشرات الآلاف من أمام مئات الجنود لتسليم ثاني أكبر مدينة في العراق بقرار رسمي من النظام العراقي، حيث قال أحد الضباط الهاربين خلال حديثه مع DW الألمانية: "كان الانسحاب بأمر رسمي، فقد جاء رئيس أركان الفرقة وآمر اللواء وطلبا انسحاب القوات المتمركزة في جنوب الموصل".

اليوم يتضح أكثر مغزى عملية الانسحاب التي قامت بها قوات الأمن العراقية النظامية من تلك المناطق والتي تركت لداعش الفرصة للتمدد بسرعة ودون مقاومة لغايات صارت واقعًا ملموسًا اليوم، فبعد أن بدأ الحراك السني والعشائري العراقي يأخذ زخمه الواسع والذي كان ضد الممارسات الطائفية والعنصرية التي يتعرض لها السنة من الحكومة العراقية، وتحول إلى حالة شعبية عارمة أعادت إلى أهل السنة حضورهم وأعادتهم إلى المشهد من جديد بعد سنوات من التهميش والإقصاء حتى تحولوا إلى شبه أقلية سياسية لا تملك أي تأثير في مؤسسات الدولة المدنية أو العسكرية حيث تعمدت الحكومات الطائفية التي حكمت العراق منذ الغزو الأمريكي تهميشهم وإزالتهم من المناصب المهمة والحيوية في الدولة.

شكَّل السلوك الطائفي المتطرف للحكومة العراقية التي يهيمن عليها أتباع المذهب الشيعي بيئة خصبة لنشوء حاضنة تتقبل تطرف مقابل أو تستسيغ وجوده لمواجهة التطرف المضاد، خصوصًا في ظل غياب التيارات السياسية السنية عن المشهد إلا همسًا ومع تخبط الفصائل السنية المسلحة وانعدام الرؤى وضعف التخطيط وعدم وجود مشاريع لديها تؤهلها لتكون صاحبة تأثير أو نفوذ سياسي أو ميداني، وكان الحراك السني الذي اندلع في ديسمبر٢٠١٢ بوابة الأمل التي تعلق بها أهل السنة في العراق، وهذا ما فسر سرعة التفاف الناس حوله واكتظاظ الميادين منذ الساعات الأولى لانطلاقه.

إلا أن أمريكا والحكومة التابعة لها في العراق والقوى التي تتحكم في المشهد ومنها إيران؛ تتلاقى مصالحهم في بقاء سنة العراق فئةً مهمشة وأقلية سياسية ومن ثم اجتماعية، حيث أن العبث في التركيبة الديموغرافية والسكانية للعراق يكاد يكون الخطر الأكبر اليوم ليس على مستقبل العراق فحسب؛ بل على مستقبل المنطقة كلها، ومدينة الموصل هي الخاصرة الرخوة والضرب فيها من شأنه أن يشعل حريقًا لا يُخمد بسهولة.

ومن هنا تنبع النوايا الخبيثة من هذه المعركة المستمرة منذ سنوات ضد سنة العراق فهي لا تستهدف "شماعة داعش" بقدر ما تستهدف الوجود السني بالعراق والمنطقة، حيث يريد الطائفيون مزيدًا من التمدد والإقصاء لأهل السنة من خلال استغلال فزاعة داعش التي سمحوا لها بالتمدد عمدًا ليقوموا بعد ذلك بالدعوة لحرب مذهبية، وتشكيل الحشد الشعبي الشيعي الذي يقوم بفظائع ضد المكون السني صاحب الأغلبية السكانية في العراق حسب المصادر الواقعية والشواهد التاريخية التي تحاول حكومة الطائفيين التلاعب بها، وهذه معركة أخرى يتم فيها إخفاء السجلات المدنية والأوراق الرسمية الأصيلة وتزييفها أو إحراقها واستبدالها بطرق مختلفة في محاولة لطمس الحقيقة كما لو كنا أمام قوة احتلال، إذن هي نيران حرب طائفية للأسف يقودها الشيعة الطائفيون لتشييع كل شيء في العراق ابتداءً بالسياسة وليس انتهاءً عند التاريخ والجغرافيا وسيدفع ثمن ذلك الجميع.

أمريكا من خلال هذه المعركة تريد صب الزيت على المعركة المذهبية وإعادة رسم خارطة دول المنطقة على أساس العرقيات والطوائف مع تغذية دوافع الصراع حتى يستمر ليأكل الأخضر واليابس، وتركيا لن تسمح بوجود تهديد طائفي أو عرقي عند حدودها، فكلا الجهتين المرشحتين لخلافة "داعش" في الموصل يشكلان خطرًا عليها؛ ذلك أن انهيار الكتلة السنية في الموصل يعني سقوط آخر قلاع السنة هناك ويعني ذلك تمدد قوات الحشد الشعبي والبشمركة في تلك المناطق، وحينها لا يمكن استبعاد قيام تلك المليشيات بحملات تطهير عرقي كما جرى في الفلوجة وصلاح الدين.

نحن أمام خارطة جديدة للمنطقة تريدها القوى الغربية ستسهم بشكل جلي في زيادة الاحتراب كنتيجة طبيعية لعملية تمكين الأقلية على حساب الأكثرية المضطهدة.

تداعيات نتائج المعركة غير محدودة حتى لو انتصرت قوات البشمركة والمليشيات الحكومية أو الحشد الشعبي، ستبقى الموصل بيئة خصبة للمواجهة والحشد على أساس طائفي، فإن غابت داعش لا يعني ذلك انتهاء التطرف لأن بيئته وهي التهميش والإقصاء والتطرف ستبقى، وقد تتفجر صراعات أخرى فإن تم تهميش السنة سيتصارع الكرد والشيعة على نفوذ المنطقة عند تقاسم الحصص ولن تنتهي دوامة الصراع ببساطة، وقد تملي الأطراف للمليشيات الطائفية من أجل التوسع في تهديد المنطقة مما يزيد من شعور المظلومية لدى أهل السنة ويجعلنا أمام مرحلة جديدة من دوامة الصراع المذهبي.

سينتج عن ذلك موجات نزوح جديدة لن تسلم منها تركيا وستفتح عند حدودها بوابة اضطراب جديدة، ذلك أن المعركة ستأخذ بعدًا طائفيًا لا تحمد عواقبه، في مقابل ذلك حسب ما رشح من معلومات تعمل تركيا منذ شهور طويلة هناك على تدريب وتأهيل بعض القطاعات الميدانية السنية لتكون قادرة على إدارة الموصل وحمايتها من داعش أو أي تغول طائفي، للحفاظ على التركيبة الديموغرافية واستقرار الحدود التركية ومنع أي توسع طائفي، حتى لا تكون تركيا في حالة مشابهة لما تعيشه الحدود السعودية مع اليمن، وحتى تمنع أي تمدد أو التقاء للمناطق الكردية يسمح بزيادة نفوذ الأحزاب الكردية المعادية لتركيا، أو حتى لا يكون هناك طريق رابط بين إيران والموصل وصولا لحلب؛ مما يعني أننا أمام خارطة جديدة للمنطقة تريدها القوى الغربية ستسهم بشكل جلي في زيادة الاحتراب كنتيجة طبيعية لعملية تمكين الأقلية على حساب الأكثرية المضطهدة، لذلك لا تريد أمريكا ولا حكومة العراق ومن خلفها إيران أي دور تركي يحاول التخفيف من تداعيات هكذا واقع أو يمنع حدوثه، وهنا يتجلى تداعي الأمم على الطائفة المظلومة في العراق.

البعض سيتهمنا بالطائفية لمجرد شرحنا ما يعيشه أهل السنة هناك من ظلم واضطهاد من الحكومة الرسمية، ومن ٦٦ تنظيم شيعي احتشد ضمن الحشد الشعبي في جهادٍ ليس لتحرير العراق من الوجود الأمريكي، ولكن للتعاون مع أمريكا ضد فزاعة "داعش" التي أصبحت أقرب لكونها مجرد مبرر مقصود سُمح له بالتمدد والعمل لتحقيق مآرب أكبر وحين تنتهي الحاجة إليه يتبخر بلمح البصر، فهل خُدع البعض بالتنظيم أم أن التنظيم أو بمعنى أدق أفراده كانوا ضحية خدعة؟
هذا ما سيتضح أكثر مع الأيام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.