شعار قسم مدونات

محمود درويش.. أنت حيّ بيننا

blogs - darwish
كم كان عميقا محمود درويش في كلامه، فيلسوفا في معاني ودلالات شعريته، فهو فيلسوف الشعراء وشاعر الفلاسفة، من خلال إدخاله للرمز في الشعر العربي الحديث، موظفا الأساطير والشخصيات التاريخية (أنكيدو، نرسيس، آدم، الوطن/المرأة، زهرة الأوركيد…) ومنفتحا على قضايا وجودية تمس الإنسان، بطريقة فتح معها الشعر العربي على عوالم جديدة ومتعددة من خلال ما يستطيع أن يقرأه النقّاد في القصيدة عبر التأويل وتفكيك دلالات كل رمز في أبعاده الجمالي، التاريخي والفلسفي.

ولذلك لا غرابة أن يعتبر فقيد الشعر والإبداع العربيين الأول، وفقيد القضية الفلسطينية ثانيا، لقد كان إنسانيا في كل شعره، عربيا في كل كلامه حتى النخاع، آمن الرجل/الشاعر بقضية شعبه وعدالتها، ولكنّه لم يسقط في "القومجية" وضيق التعصّب والقبليّة التي سقط فيها الكثير من المدافعين عن قضية فلسطين أو قضايا مشابهة في العالم، فليس من السهل أن تكون وطنيّا/قوميا، وفي نفس الوقت تكون إنسانيا وكونيا.

يعتبر درويش دوما العدو الأول بالنسبة لسياسيي "الصهيونية" وقادة "الموساد"، فليس هناك حرب أشرس من حرب الأفكار.

لقد مزج في شعريته بين الدفاع عن القضية الفلسطينية والنضال من أجل التحرر الوطني والدفاع عن الإنسان ومعالجة قضاياه الأنطولوجية، كالموت، المصير، الهوية، الحرية، الحب والسلام وغيرها.. لقد كان درويش الشجرة التي أخفت -إبان حياته وحتى بعد وفاته- الغابة؛ غابة الشعراء الفلسطينيين والعرب القوميين أيضا..

قد يكون درويش، بعد أن رحل قبل الأوان، قد يكون نسي شيئا ما، كما يتساءل في قصيدة تونس التي أبكته، "هل نسينا شيئا وراءنا" ؟ نعم، نسينا تلفت القلب وتركنا فيك خير ما فينا، شهداءنا الذين نوصيك بهم خيرا"..

هكذا أجاب درويش والدموع تملأ عينيه والألم يعصر قلبه، وهو يتذكر كل الذين فقدهم الوطن فداءً لأجل قضيته العادلة، ولكن الأكيد أنه لم ينسى يوما أنه يتنفس من القدس عبق التاريخ ويرفرف فوق أجنحة الملائكة المحلّقة فوقها مع "صوت الحياة الأول"، كما يحاجج بذلك "العابرون في كلمات عابرة" نحو وطن يأويهم "كالكلاب الضالة" ، ليقدم لهم الدليل والبرهان على أنّ فلسطين عربية/إسلامية ولم تكن يوما ما يهودية، "فلنا الدنيا هنا والآخرة، ولنا صوت الحياة الأول" فعكا عربية، واسمها عربي أيضا، وهي "أقدم المدن الجميلة وأجمل المدن القديمة".

ولذلك كان يعتبر درويش دوما العدو الأول بالنسبة لسياسيي "الصهيونية" وقادة "الموساد"، فليس هناك حرب أشرس من حرب الأفكار، قد تهزم شعبا ما بواسطة الحرب المادية والسلاح، ولكنك لن تستطيع أن تهزم شعبا متشبع بقيم التحرر والحرية والدفاع عن الوطن أمام مغتصب فاقد للشرعية وفاقد للاحترام الدولي.. عدو يبني الوطن على جثث الأطفال والنساء، ويتبجح ببطولاته الوهمية في مواجهة شعب أعزل، وفي كل مواجهاته العسكرية مع الفلسطينيين أثبت أن عزيمة الرجال أكبر وأهم من السلاح الذي تحمله الأيادي المرتجفة مهما كانت الأسلحة حديثة وفتاكة..

"لا أخ لك يا أخي" فالعرب خائنون من الماء إلى الماء، دافع عن وطنك، عن قضيتك أيها الفلسطيني الثائر المناضل، واترك العرب في طائفيتهم، قبليّتهم، وعشائريتهم…يتناحرون ويتقاتلون، فهم مختلفون حول كل شيء حتى وإن لم يكونوا، وإن لم يبقوا أو يوجدوا، عكسك أنت، فالشرط أن تكون أولاّ كشعب حرّ، ".. نريد أن نكون، وبعده نحن مختلفون حول كل شيء..".

لكن العرب لن يفكروا مثلك أبدا "أن يجعلوا امرأة على جهاز الأمن" فالعربي والشرقي بصفة عامة يرفض لحد الآن -بالرغم من كل خطاباته الحداثية- يرفض أن يخضع لسلطة المرأة، فالرجل الشرقي لا يرضى بدور غير أدوار البطولة كما تقول السيدة ماجدة الرومي التي غنت لدرويش الكثير من قصائده، لذلك فاختيار درويش لهذا التشبيه يعكس إلى أي مدى كان عميقا في كل بيت شعري يكتبه، أو أي صورة شعرية يستعملها أو رمز يوظفه.

الآية معكوسة في كل البلاد العربية؛ فالحاكم العربي هو الذي "يختار شعبه، فردا فردا"، وطبعا وفق معايير الحكم التي ورثها عن أجداده مع ملكية البلاد.

كما لن يستطيع العرب أن يفعلوا ذلك، لن يقوى العرب أيضا، من الماء إلى الماء، أن يغيروا كلمات النشيد الوطني، التي تحكي عن الإمبراطور العربي وألوهيته أو خلافة الله في الأرض "تجاوزا؛ لكي لا يغضب أنصار العدمية"   العدمية كما فهمها لوك فيري عن نيتشه، لن يغيروه بــ" قصيدة تحكي عن زواج الحمام"، فالفرق طبعا أسطوري، بين الحرية والعبودية، بين التحرر والقيود، بين السلام والحرب، بين زواج الحمام، وكلاب الإمبراطور العربي، الذي تواضع ذات يوم وكلف شاعرا بكتابة خطابا يوجهه إلى شعبه، ولم يجد بين الشعراء سوى محمود درويش الذي لم يرى هذا الحاكم –بنفاذ بصيرته وعمق الرؤية لديه- لم ير أحدا غير درويش أجدر منه لهذه المهمة القومية! وتكلمّ الديكتاتور على لسان درويش أو ربما تكلم درويش بلسان ديكتاتور…هل كان درويش ديكتاتوري فعلا؟ أم أنه كان ديكتاتوري الشعر العربي بلا منازع؟

"سأختار شعبي واحدا واحدا، من سلالة أمي ومن مذهبي…" فإذا كانت الأعراف الديمقراطية في العالم تجعل من الشعب هو الذي يختار حاكمه ومن يقوده، فإنّ الآية معكوسة في كل البلاد العربية؛ فالحاكم العربي هو الذي "يختار شعبه، فردا فردا"، وطبعا وفق معايير الحكم التي ورثها عن أجداده مع ملكية البلاد، ومن هذه المعايير أن يكون الشعب من "مذهب" الحاكم و"سلالته ودمه"، لأنه يفترض في هذا الشعب أن يكون "سياجا لمملكته ورصيفا لدربه " يحميه ويصفق له بمناسبة وبدونها، وأن يقف الشعب، كل الشعب "حوله كخاتم"، ويحرس هواءه عن الفقراء..

وهكذا تمضي الحياة وما يزال ركاب حافلتها يسألون "عن ما بعد المحطة" لأنهم لا يريدون النزول رغم "أنّ لا شيء أعجبهم" هنا، لكنّ درويش لا شيء أعجبه أيضا، لكنه فضل النزول، فقد أعياه السفر في هذا العالم القاسي "أنا مثلهم؛ لا شيء يعجبني ولكنّي تعبت من السفر" وهكذا أكمل رحلته وحيدا وبقي متربعا على "عرش الهوامش" راسما لمن يأتي بعده طرقا جديدة للتفكير وللكتابة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.