شعار قسم مدونات

نظرية نهاية التاريخ، حفل الأناءات، وزخم الما بعديات

US philosopher and economist Francis Fukuyama speaks during the conference entitled 'Democracy and Its Discontents' held by the Central European University (CEU) in Budapest, Hungary, 09 October 2015. EPA/ZOLTAN BALOGH HUNGARY OUT
«نهاية التاريخ والإنسان الأخير» هي نظرية للمفكّر الأمريكي من أصول يابانية فرانسيس فوكوياما، الذي نشر مقالًا في مجلة-the national interest-عام 1989 بعنوان «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، قبل أن يحوله إلى كتاب عام 1992، وما عناه فوكوياما بالتاريخ ليس ذلك الحيز الزمني بما يستوعبه من أحداث ووقائع وإنجازات واكتشافات، بل أراد الإشارة إلى التاريخ بما هو فضاء لتموضع الأفكار الكبرى وتطورها الفلسفي الديالكتيكي، وبالتالي يكون المقصود بالقول: "انتهى التاريخ" هو إعلان نهاية الأيديولوجيات، وإقرارًا بأنّ الإنسان الأخير سيعيش في كنف الديمقراطية الليبرالية إلى الأبد، لأنّها التعبير النهائي والتأليفي لتراكمات الفكر الإنساني.

هذه رؤيتنا التعريفية نعرضها باقتضاب وننصح من يهمّه الأمر بالعودة إلى كتاب «نهاية التاريخ والإنسان الأخير» للاقتراب أكثر من المقاربة الفوكوياميّة التي تتحدّد نقيضًا للأطروحة الماركسية في نهاية التاريخ، بطبيعة الحال يبدو أمر هذه النظرية محسومًا سلفًا إذا نظرنا إليها بمنظار عقدي-ديني باعتبار أنّ الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد قطع قول كل خطيب كما يُقال بقوله: "…ثمّ تكون خلافة على منهاج النبوّة"

لقد وفر فوكوياما بنظرية «‫‏نهاية التاريخ» غطاءً علميًا أكاديميًا يُشَرعن النزوع الإمبريالي الأمريكي، ويعزز ذلك الخطاب الرسالي المهيمن على خطاب الساسة الأمريكيين.

حفل الأناءات(1) وزخم الما بعديّات:
لئن بدت نظرية «‫‏الإنسان الأخير» أو «‫‏خاتم البشر»-LAST MAN- لأول وهلة متناقضة مع العقل الغربي القائم على الشك والنقد المستمر، وعلى ال«ما بعديات»، إلا أنّها في حقيقتها تشكّل إعادة إنتاج للهيغليّة (2) بل استعادة ما للجمهورية الأفلاطونية و«مدينة الله» الأوغسطينيّة، وهي في جوهرها عقلانية متطرّفة، أو فلنقل «عقلانية عنصريّة» تتجاوز الغرب بالغرب إن صح التعبير. فهي إعلان عن نهاية هذا العقل وبداية عقل غربي آخر، يفترض واهما أنّ منتجاته هي تتويج للفعل الإنساني عبر التاريخ، ما يعني أن مفكرنا الاستراتيجي الأمريكي وأستاذ الاقتصاد السياسي (فرانسيس فوكوياما) لم يفعل في النهاية سوى إطلاق «ما بعديّة» جديدة فلنسمها «ما بعد العقلانية الغربية»، رغم يقيننا أنّ اصطلاح «الما بعد» نفسه هو صنيعة الاستعلاء الغربي المتعفّف والمترفّع عن إعلان النهايات.

وبهذا المعنى تبدو أطروحة فوكوياما احتفاءً صريحًا بإفراز حضاري غربي (3) ومرْكزةً له في مقابل مناهج ونماذج أخرى، ففرانسيس المعروف بقربه من المحافظين الجدد تحدّث صراحةً عن عالم «تاريخي» أو «أنظمة متخلّفة» يجب إزالتها لتقام على أنقاضها الديمقراطية بشكلها الغربي، وقصد بالأنظمة «المتخلّفة» تلك الأنظمة القبلية والدينيّة. بل إنّنا لن نتاجر بشرف الحقيقة إذا قلنا إنّنا إزاء تعبيرة (متقدّمة) للمركزية الغربية التي لا تتوانى عن الإعلان المدوّي عن كسب الغرب معركةَ الحضارة.

والحقيقة أنّ عرش ‫‏الطرح الفوكويامي لم يهتزّ بفعل الأحداث والوقائع التي عرفها العالم، بل إننا إزاء مقاربة مشوبة في أساسها بالاعتلال رغم أنّه ا-أو لأنّها- مُغرقة في العقلانيّة، التي هي أحد إفرازات النرجسية أو الرؤية المركزية الثقافية الغربية، دون أن ننسى نوازع الهيمنة الأمريكية تأصيلًا عمليًا لفكرة «الولايات المتحدة مدينة على التل» أو «الدولة الأم»، التي يحتاج إليها الجميع، وحتّى مع المراجعات الأخيرة التي قام بها الكاتب في اتّجاه الإقرار بالأفول الوشيك للسيطرة الأمريكية، والذهاب نحو عالم متعدّد الأقطاب بقيَ النموذج الغربي للحكم (الديمقراطيّة) أرقى وأعلى ما يمكن أن ينشده الإنسان ما بقيَ على وجه الأرض.

بنيان فوكوياما وثورات الربيع العربي:
وغنيّ عن البيان أنّ بنيان ‫‏فوكوياما قد تصدّع بشكل خاص بعد ما شهدته المنطقة العربية من ثورات وما رافقها من صعود مثير للإسلاميين، وهذا فيما نزعم أكبر هزّة عرفتها نظرية فوكوياما، ولئن كنا لا ننكر أنّ صعود اليسار في أمريكا اللاتينية وتعاظم العمل الحركي الإسلامي «الأصولي» في منطقة الشرق الأوسط، تُعدّ المستجدات التاريخية الأبرز التي دفعت فرانسيس نفسه إلى مراجعة مكتسباته المعرفية، وإعادة النظر في مرتكزاته النظرية التي بناها منذ أكثر من 22 عاما في كتاب فُهم منه تراجعه عن نظريته حمل عنوان: «بداية التاريخ.. منذ أصول السياسة إلى الآن» عام 2012 قبل أن يعود إلينا الكاتب نفسه عام 2014 ليشدّد على تمسّكه بفكرته الكبرى في كتابه: «النظام السياسي والاضمحلال السياسي: من الثورة الفرنسية إلى الوقت الحاضر» عندما أشار إلى أنّ موجة الثورات العربية هي إحدى تعبيرات الزحف الشعبي نحو الديمقراطية.

لقد وفّر فوكوياما بنظرية «‫‏نهاية التاريخ» غطاءً علميًا أكاديميًا يُشَرعن النزوع الإمبريالي الأمريكي ويعزّز ذلك الخطاب الرسالي المهيمن على خطاب الساسة الأمريكيين، الذين يستعيدون في كل مرة وبأشكال مختلفة مقولة: «أميركا و…الآخرون»، فقد بدت الأطروحة الفوكويامية هدية من السماء تلقّفها بقية المحافظين الجدد (أو الشتراوسيين الجدد) بلهفة منقطعة النظير لوضع «براديغمات» سياسيّة عدائيّة تصبّ في مجرى فكرة أخرى لا تقل إقصائية، وهي فكرة «صراع الحضارات» الهنتنغتونيّة التي تغذّيها فكرة "‏نشر الديمقراطية".

————————————————————————————-
(1) حفل الأناءات: عنوان كتاب للمحلل النفسي الفرنسي "لوران شميت"..
(2) الفيلسوف الألماني "هيغل" بشّر بنهاية "تاريخ الاضطهاد الإنساني" فور استقرار نموذج السوق الحرة وانتشاره.
(3) تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنّ هناك من ينظر شزْرا إلى عبارة "الحضارة الغربية (أو الأوروبية)" ويستعيض عنها بعبارة: "الحضارة الإنسانية" بما أنّ المنجز الحضاري الغربي هو في حقيقته تتويج (ما) للسيرورة التاريخية الإنسانية ككل، ورغم أنّ البراديغم الديمقراطي قد استفاد من التلاقح الفكري بين الشرق والغرب، إلا أنّه لم يظهر ولم يتطور إلّا في أوروبا ،لذلك "غامرنا" بالحديث عن الديمقراطية ك "إفراز حضاري غربي"

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.