شعار قسم مدونات

السجين.. من زاوية نظر أخرى

سجن

السجن، أو ما يعبر عنه بالمغناطيس الذي يجذب كل معادن المأساة والمعاناة والقصص الحزينة؛ فضاء ضيق المساحة، شديد المراقبة، كابح لحرية زائريه المجبرين على الإقتناع بالوجهة التي أهدتها لهم الأقدار السماوية كمكافأة نهاية العمل.

هؤلاء الزائرون هم من نوع خاص، يحاولون بكل جهد أن يتركوا أجسادهم المنهكة قابعة في ذلك المكان، و يحلقون بذاكرتهم في فضاء الحسرة و الندم، فيكتبون و يبوحون بما في قلوبهم من حديث، لا يمكن حصره في عدد معين من الأوراق، و يتهكمون لتمضية وقت يتمطط أثناء الليل.

هناك من ترك حبيبته تتقاذفها بالخارج أقاويل المجتمع و تهمه الكيدية، فالمجتمع أعدم قصص حب كثيرة، ولدت ميتة من رحم الصبر وحسن الظن بالأيام القادمة. وهناك أيضا من جذبه هذا المغناطيس وأفسد رحلته الشبابية المفعمة بالحماس المفرط والغبطة، حتى صار محل سخرية أفراد حارته الذين لم يترددوا في إطلاق العنان لألسنتهم السامة والصاق الألفاظ الموجعة به ولن يترددوا في تلقينها لأبناءهم الذين سيأخذون عنهم مشعل شتم الآخرين.

يوم الإفراج عن السجناء يوم عظيم ومأساوي في الوقت نفسه رائع لأنهم سيستنشقون رائحة الحرية ، ومأساوي لأنهم سيغادرون مكانا أصبح عنوانهم الوحيد

يتصاعد دخان السجائر الرخيصة و يخرج من النوافذ الصغيرة القريبة من السقف، لينتشر في الفضاء الخارجي بنية تلويثه، لأن الفضاء الداخلي ملوث بطبيعته، وممل، ويبعث الحزن في نفس رواده الذين يتكأون بظهورهم على الجدران المبقعة والمزخرفة بكتابات تروي تفاصيل حياة مؤلفيها، دونوها بعد رحلة تفكير طويلة كادت أن ترمي بهم في دنيا الجنون لولا رحمة الرحمان.

كتابات في شكل قصائد لا تحترم لا البحور ولا القافية ولا الصور الشعرية، يقرأها الزوار الجدد حتى يعرفوا قوة الوجع الذي أصاب الكاتب في وقت ما. الأم هي الشخص الوحيد الذي يبقى خالدا في ذاكرتهم، فيذكرون خصالها ويمدحونها، لتبقى هي البطل الوحيد الخارق في حياتهم، وهي السبب الوحيد في رغبتهم في الخروج، ومغادرة ذلك المكان دون النظر إلى الوراء.

يوم الإفراج عنهم هو يوم عظيم، رائع و مأساوي في نفس الوقت. رائع لأنهم سيستنشقون رائحة الحرية التي مضت عقود على تلذذها، ومأساوي لأنهم سيغادرون مكانا أصبح عنوانهم الوحيد و سيصطدمون ببيئة غير التي اعتادوا عليها.

ييئة ينظر أفرادها إليهم كمواطنين من درجة ثانية، يشعرون عندها بالإقصاء، والتمييز وخاصة الخيانة. فتستقطبهم الجلسات الشعبية التي لا تفرق بين هذا وذاك، و ينحازون إلى الفقراء المهمشين، ويؤلفون الأغاني الشعبية التي تروي حياة السجن العسيرة وغدر الأصدقاء وخيانة الحبيبات خلالها، حتى تحتل الكآبة كل مكان في عقولهم المرهقة و يقتلهم الحزن شيئا فشئ. فيموتون دون عويل ولا إشتياق ولا جنازة لائقة، فقط بكلمات يلحنها المهتمون، لتصبح أغان شهيرة يقتات على أرباحها بعض الفنانين و يرددها الصبية و الشبان دون معرفة القصة الأصلية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.