شعار قسم مدونات

رؤى تجديدية للعمل الإسلامي(1)

blog شعار الحركات الإسلامية

في التربية والمنهج(1-1)
ذَكَر الدكتور عبدالله النفيسي في كتابه القيّم " الحركة الإسلامية ثغرات على الطريق" أن الحركة تضخ عنصراً (حزبياً) في المجتمع لا (مجتمعي)، يقيس كلما حوله بمسطرة المقدّس والمدنّس" فالمقدّس هو الداخل الحركي للتنظيمات المؤدلجة، والمُدّنس هو المجتمع الخليط من غير الإسلاميين من المسلمين وأنصاف المسلمين وأرباعهم وعصاتهم وشاربي الدخان وسامعي الأغاني والجاهليين في تصنيفاتٍ متفاوتة تختلف من تنظيم إلى تنظيم وتستوعب أو تتشدد حسب عمق الأيدولوجيا أومدى الانفتاح المجتمعي..

إن التربية المؤدلجة في العمل الإسلامي والتي اقتصرت على أدبيات الدعوة ككتب البنا وسيد وغيرهم من رجالات الحركة الإسلامية، بل حتى المدارس السلفية التي باتت تقلّد التنظيمات في بعض أنشطتها زرعت في لاشعور الصف الإسلامي "الاصطفائية" عن المجتمع المدّنس، و"الاستعلاء"، و "الانغلاق".

أهداف التربية التي بنت عليها الحركة الإسلامية أُسس مناهجها لم تُعّد مسلّمات تُنشّأ عليها الأجيال فهي مجرّد اجتهاد بشري

وبالتالي يرتكز مشروع النهوض بالأمة على طبقة المؤمنين إن صح التعبير، ويتم هدر طاقات كثيرة وبناء حواجز معها، كان من الممكن الاستفادة منها لخدمة المشروع في المجالات السياسية والإعلامية والاقتصادية والمتأخرعنها الإسلاميون بدرجات.

ومثل هذا عائق كبير في التمكين وفي بلوغ الأهداف وعمل بطيء يهمّش باقي طاقات المجتمع الغير ملتزمة بأدبيات الحركة أو منتسبة للتنظيم، وبالتالي تكون المخرجات على قدر التشدد في شروط المدخلات … ضعفٌ وبطءٌ وعُزلة وأرقام على قدر الجُهد والحال!

نقطة أخرى تُرينا مدى ضرورة التغيير الجذري في المناهج… خُذ مثلاً أهداف التربية التي بنت عليها الحركة الإسلامية أُس مناهجها، والتي صاغها الإمام الشهيد حسن البنا-رحمة الله عليه: من تنشئة الفرد المسلم ثم البيت المسلم، ثم المجتمع المسلم، ثم الدولة المسلمة، ثم الخلافة الإسلامية، ثم أستاذية العالم… أهداف تربوية جميلة ورائعة في تسلسل منهجي في البناء إلى الدولة المسلمة.

لكن ما بعد هذه الأهداف لم تُعّد مسلّمات تُنشّأ عليها الأجيال حالياً كالخلافة التي ليست عقيدة سياسية ينبغي تكرار أسطوانة التربية حولها والمراهنة على تحقيقها، بقدر ماهي مجرّد اجتهاد بشري وطريقة في الحكم لا أكثر.
 

وقد فرضته ظروف الفتوحات والأحوال التاريخية السابقة، ويُنادى بذلك الاجتهاد أو يُربّى عليه النشأ في بلدان لا تزال بحاجة إلى إنتاج الدولة القُطرية القوية الناجحة أولاً، ثم الوحدة ثانياً في بعض القطاعات مع الدول الإسلامية، ثم التعايش مع النظام الدولي الجديد بالتحالفات وبتعقيداته الكثيرة، وتنافس الحضارات، لا خلافة مترامية الأطراف مركزية الحكم هشة الأطراف، يسهل قضم أطرافها، كما حدث في أواخر عصور الخلافات السابقة، هذا لو سلمنا أنها يمكن إقامتها جدلاً في وسط هذا العالم والنظام الدولي المسيطر على كل شيء !

ولعل تكرار هذه المنهجية التربوية في الصف الإسلامي على تقادم تلك الأهداف دون تطعيمات مناسبة للتغييرات الاجتماعية والسياسية والتاريخية نقل المشروع الإسلامي إلى هدف رئيسي وحيد، وهو "إشاعة التدين"، حتى بات التفكير الإسلامي يعيش أوهام التمكين بانتشار التدين فقط في ظنِّ كثيرين منهم أن إنتاج المسلم الصالح والمجتمع الصالح سيفرز بالضرورة اقتصاديين ووزراء وقيادات سياسية صالحة "ناجحة وكفؤة في مجالها".

وتناسوا أن هذا لا يمر إلا بتطعيمات تُخالف المنهج المتقادم بالأساس والذي يغرس في اللاشعور المقدّس والمدّنس، وثقافة التنظيم لا ثقافة المجتمع، وفقه بناء الحركة لا فقه بناء الدولة، وحركة التدين لا حركة التاريخ وقوانين النهضة.

لابد من الانتقال من فقه التنظيم إلى فقه الحياة، ومن بناء الذات الأيدولوجية إلى بناء الإنسان الحضاري المؤمن بربه، الخبير بمجتمعه العارف بعصره

ولو تم تطعيم الناشئة في المناهج وتحديثها بضرورات الحياة الاجتماعية والتعامل الإنساني الواسع وفقه متغيرات الحياة وقوانين النهضة وشروطها والصقل التخصصي في العلوم الإنسانية والتنمية البشرية جنباً إلى جنب مع أدبيات التربية الإسلامية لنتج ما يرومون من قادة أقحاح في مجالاتها تمضي لخدمة مجتماعتها ونهضة أوطانها في أدبٍ وعفاف ونزاهة وإيمانٍ كذلك..

ولعلّ ماذكره السياسيون عن "حكومة الظل" هو ما يشرح هذا ويقرّبه في التمكين المتدرّج بأدوات المجتمع والدولة، فحكومة الظل أو حزب الظل، هي خلفية تخصصية كفؤة وفيها من الجاهزية من التخصصات الإدارية والسياسية والاقتصادية والتعليمية والاجتماعية ما يمكن أن يملأ فراغ الدولة بالكامل في حال فوز انتخابي وتشكيل حكومي.

وهو ما تزال الحركة الإسلامية لا تستطيع أن تسد فراغه لعوامل كثيرة أهمها المنهجية التربوية السائدة، ثم تَقَدّم معايير التنظيم على معايير التخصصية والكفاءة، وغيرها مما ليس هذا موضع بسطه، حتى يسهل صعودها في الغالب إلى كرسي الحكم بفعل القبول الإيماني وأصداء والورع والعفاف، ثم ما يلبث أن يسهل هُويّها أيضا بسهولة وسرعة أكبر لعدم وجود المخزون الكافي في فقه الدولة والمجتمع..

و لابد من الانتقال من فقه التنظيم إلى فقه الحياة، ومن بناء الذات الأيدولوجية إلى بناء الإنسان الحضاري المؤمن بربه الخبير بمجتمعه العارف بعصره، لنضمن مكاناً لنا في المستقبل بأدوات الحياة لا بأدواة أكَلَتها الأَرضة من تقادم الزمان عليها دون تحديثٍ أو تغيير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.