شعار قسم مدونات

إليكَ عزيزاً.. مُلهماً ومعلّماً..

blogs - father
إليك..

لطالما أردتُ الكتابة لك، إلا أنه يصعب أحياناً توصيف العواصف حتى من قبل نفسها، أو ثوران الأمواج حتى من قبل راكبها..

عزيزاً؛
لست أدري بم عليّ أن أستهلّ رسالتي، مع هذا القدر من الرهبة التي تحيط كتابتي عنك.. هلّ لي أن أبدأ بأحبك، أحبك ولو لم أقلها بصوت عال، بالقدر الذي فكرت بها أو همست بها لنفسي..

أحفر عميقاً في ذاكرتي، منقباً أبعد من ملامحك الهادئة التي تشبه سانتياغو في تحفة أرنست همينغواي "الشيخ والبحر"، بلحيتك المتناثرة غالباً المشذّبة أحياناً، بشعيرات بيضاء تتوزع فيها هنا وهناك، وعيناك اللتان تغوران عند تركيزك وتطفحان بالبهجة عند استقبالنا لك..

أنا مَن أخفى طويلاً كل حبه نقمة، أبثك إياه اليوم منحة على اللحظة التي أخبرتني فيها أني سأفهم حين أكبر.. وها أنا أدّعي الفهم، أدّعي الكبر، رغم أني لم أكبر ولم أفهم..

بطولك الفارع -نسبة لطفولتي-، يديك الطويلتين، الكافيتين لاحتوائي ومنحي أماناً أسطورياً، وقوامك الذي لا يزداد بدانة أو نحولاً أبداً..

بالتِماعَة الابتسامة في عينيك قبل ثغرك، والشريان الذي ينبض بسرعة في صدغيك، عند توترك أو غضبك، أو عند نوبة صداع ما..

ما تحمله ذاكرتي حقيقةً، هو بعض الكتب التي تجلبها كهدية، بعض القصائد التي خبأتها زمناً لتفخر بها أمامي، وبعض العناد مني ومحاولاتك لإرضاء غروري الطفولي بعد تقريع عنيف..

مُلهماً؛
لطالما أردت حكاية ما قبل النوم بدلاً من قصائد السيّاب ونازك الملائكة، ولطالما أردت مجلات العربي الصغير لا نسخك من العربي والمجلة الثقافية المتخمة بقصائد البردوني وحكايا المتنبي..

لطالما أردت حكاية عنك عوضاً عن قصيدة من ديوانك الذي لم ينشر "جمرات تحت الرماد"، ولطالما آمنت أن الشعر إعجاز..

رغم بلاهة سنيّ العشر، ورغم محدودية أفقي ومخزوني اللغوي، إلا أن حضورك ما فتئ يبهرني كأي طفل سيبهت من حضور نبي.. رؤيتي الطفولية لم تمنعني من إدراك كون الشعر منحة، شيء يشبه كرامة الأولياء أو معجزة الرسل..

قد يكون إدراكي المتأخر ضيق الرؤية نسبياً، إذ أنه لم يبلغ أكثر من نظرة طفل نحو والده نظرة السوبر هيرو.. إلا أن أولى كلماتي الجادة التي خططتها على الورق لم تكن إلا محاولة لتقليدك، أو ربما لخطف أنظارك كما فعلت نازك والسياب..

ومعلّماً؛
لأعترفَ، نالني ما نال من الغيرة والسخط على قراراتك وتعنيفك المنحاز لأخي بداية ولأخواتي بعدها..

أنا الطفل الأكبر الذي اعتادك ملكاً خاصاً، لا مجال لمناقشة أحقّيته فيك، وكان يفتعل المشاكل والشجارات ليحظى بحضن وكلمة معنفة على سرعة غضبه، برقتك المعهودة وصوتك العتيق عتق بيتنا العربي الأول ودالية العنب والياسمينة..

وحين كانت محاولاتي تبوء ببعض ردود فعلك المنهكة أو تعبيراتك الصوتية بإيجاب وانبهار لا تعيه، بينما تنهض لحمل إحدى أخواتي مداعباً دون كلل، رغم كل تفاصيل يومك الشاق وآلام مفاصلك..

أبي؛ أنا الذي أصرّ ثلاث مرات في اليوم على الأقل أن لا تقرنه لا في شتيمة أو مديح، كان يحب اسمه مقروناً بثناء لامع أو تقريع لا يجاوز شفاهك دون أن يشاركه أحد ولو شتيمة..

أنا من فخر بنفسه يوم دفعته دفعاً ليقرأ خربشاته على الهواء، في البرنامج الإذاعي "محطات أدبية"، رمى السماعة وطالع وجهك بابتسامة مشرقة بحثاً عن التقدير في عينيك..

أنا من دفعته ابتسامتك ليكون أكثر تمرداً، عنفاً، هرباً وجنوناً؛ بينما دفعه غضبك للتدثر في سريره مخفياً نشيجه، كاتماً شهقاته، وحاضناً وسادة يهمس لها بأحقيّته فيك، أحقيّة الابن البكر..

أنا الذي لم يكن ولم يعرف نفسه إلا من خلالك، من خلال فخرك وإطراء الناس على شبهه بك وبطفولتك.. أنا مَن أخفى طويلاً كل حبه نقمة، أبثك إياه اليوم منحة على اللحظة التي أخبرتني فيها أني سأفهم حين أكبر..

وها أنا أدّعي الفهم، أدّعي الكبر، رغم أني لم أكبر ولم أفهم..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.