شعار قسم مدونات

المسلسلات التاريخية ودورها في نشر الإرهاب

blogs - history
لا يمكن أن نتقدم بأي خطوة للأمام بغير أن نصلح ماضينا ونعترف بالأخطاء التي توجد في تاريخنا ونتخلص منها، ولا يكون ذلك سوى بنزع القداسة عن هذا التاريخ، وإعادته قراءته قراءة علمية متجردة بعيداً عن التحيزات الأيدلوجية والقومية والطائفية، وأن يكون غرضنا من هذه القراءة هو معرفة الحقيقة ولا شيء غيرها.
 

رغم أن كتّاب مسلسلات التاريخ في مجملهم علمانيون وقوميون؛ إلا أن لهم دورا كبيرا في تأسيس وشرعنة خطاب الكراهية والإرهاب والترويج وتمجيد أشخاص وإضفاء طابع القداسة عليهم وتشويه آخرين والحط من شأنهم.

المسلسلات التاريخية العربية في غالبها كارثية -أستثني أعمال دكتور وليد سيف- تروج لفكرة الفسطاطين كما تفعل داعش بالضبط.

إن كل عمل إجرامي يسبقه تفكير عميق وتخطيط دقيق، وكل عنف مادي يسبقه عنف لفظي، وكما قال الشاعر العربي قديم "أن الحرب أولها الكلام" فمن متابعتي وقراءاتي المستمرة لما يكتبه أنصار تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" ومن سار على دربهم من تنظيمات الإرهاب فإنهم قوم غارقون حتى النخاع في التاريخ في زمن الفتوحات ويحاولون استعادة ذلك الزمن بأي ثمن ولسان حالهم يقول "هكذا كنا فمتى نعود؟".

وهؤلاء المساكين هم ضحايا للمسلسلات التاريخية التي تصور لهم البطولة على أنها ركوب الخيل وقطع رؤوس الأعداء، وبالتالي فهي تؤسس للعنف بشكل غير مباشر وتتغاضى عن بطولات أخرى في التاريخ العربي والإسلامي كبطولة سعيد بن جبير -الذي قتله الحجاج الجائر- أو بطولة الإمام أحمد بن حنبل -الذي صمد أمام فتنة خلق القرآن- أو بطولة ابن رشد الذي خاض معركة لينصر المنهج الفلسفي البرهاني على منهج التصوف العرفاني، ولو كنت أملك سلطة الرقابة على مثل هكذا محتويات لقمت بحذف مشاهد قطع الرؤوس وسفك الدماء التي تزخر بها المسلسلات التاريخية العربية.
 

المسلسلات التاريخية العربية في غالبها كارثية -أستثني أعمال دكتور وليد سيف- تروج لفكرة الفسطاطين كما تفعل داعش بالضبط؛ بل إنها تتعمد أن تجعل لباس المسلمين أبيض ولباس غير المسلمين ملون، وتظهر جيش المسلمين وكأنهم ملائكة يمشون على الأرض بينما جيش الكفار يشربون الخمر ويراقصون النساء، وهذا الأمر غير صحيح وغير واقعي.

لقد كان مجتمع الصحابة مجتمعا طبيعيا جدا مثل أي مجتمع؛ كان فيهم المؤمنون وكان فيهم المنافقون الذين حكى عنهم القرآن وكان هناك العصاة كمثل المرأة التي سرقت وقطع رسول الله يدها، وفيهم من شرب الخمر وجُلد وفيهم من زنا ورجمه رسول الله كمثل ماعز والغامدية .
 

ربما تكون أعمال دكتور وليد سيف استثنائية لأنه يحاول قدر الإمكان تلافي هذه الأخطاء، فمثلا في مسلسله عن صلاح الدين حاول أن يثبت أن الحرب بين صلاح الدين و"الفرنجة" لم تكن حربا دينية كما يحاول البعض تصويرها كذلك، وأن مسيحي الشرق وقفوا مع مسلميها ضد الحملة الصليبية، وفي مسلسل صقر قريش استطاع بذكاء أن يصور أنه لا فارق يذكر بين بني أمية وبني العباس، فكلا الدولتين تغيب فيها قيم الشورى ويقتل خلفاؤها بالظنة بلا قانون ولا رادع.

وفي مسلسله ملوك الطوائف استطاع بذكاء أن يدفع المشاهد للتعاطف مع المعتمد بن عباد على حساب يوسف بن تاشفين، الذي خان ونكث وغدر وأخذ يحتل المدن الأندلسية رغم العهود والمواثيق التي بذلها لملوك الطوائف، وكثير من أعمال الدكتور وليد سيف هكذا، فهو عبقري في كتابة المسلسلات التاريخية وعبقري في إيصال الرسائل لعقل المشاهد.
 

من الأوهام التي تروجها هذه المسلسلات التاريخية ترويجها للداروينية السياسية وإقامة الدول على جماجم ورؤوس الناس وكأن الدولة الإسلامية الأولى قامت على سيوف الصحابة من مهاجرين وأنصار، ولم تتكون على ضوء دستور "المدينة" الذي ينص على أن "يهود بني عوف أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم إلا من ظلم، ويهود بني النجار مثل يهود بني عوف ويهود بني الحارث مثل يهود بني عوف ويهود بني ساعدة مثل يهود بني عوف" وهو دستور يقر مبدأ المواطنة بشكل واضح قبل 1400 سنة.

لو كانت القوة هي الحق كما فهم البعض؛ فمعنى ذلك أن لإسرائيل كل الحق في احتلال فلسطين وهذا ما لا يقبله العقل.

فهل أقام رسول الله دولته على الجماجم والأشلاء وسفك الدماء وكذلك كان الأمر مع الخلفاء الراشدين الأربعة فقد بايعهم المسلمون بعد مشورة ورضا ومعاوية بن أبي سفيان أجمع عليه المسلمون في عام الجماعة وأما ابنه يزيد فبايعه جميع الناس إلا ثلاثة أشخاص (عبدالله بن الزبير والحسين بن علي وعبدالله بن عمر) ولم تعرف الأمة الحكم الجبري القهري الذي هو بالقوة والعنف وسفك الدماء؛ إلا مع الحكم المرواني والحجاج بن يوسف ومن بعده مع أبي مسلم الخرساني داعية بني العباس وهؤلاء الناس ليسوا حجة لنا فليسوا صحابة أو من أشراف التابعين.

أقول هذا لأنني شاهدت أحد الإعلاميين من ذوي النزعة الإسلامية وهو يشيد بمسلسل "قيامة أرطغرل" التركي التاريخي، والذي في رأيه يؤيد فكرة قيام الدول بالقوة كما قامت الدولة العثمانية؛ متناسيا أنه هناك فارق بين الدولة الاستيطانية مثل "أمريكا وتركيا" وبين بقية الدول الأخرى فالدولة الاستيطانية لا تقوم إلا بالقوة وبسحق الآخر؛ تماما كما حصل في حروب الاسترداد الإسبانية وفي الكيان الصهيوني.

أما الدولة الطبيعية فإنها تقوم على مقومات الأرض والشعب واللغة والتاريخ المشترك، ولو كانت القوة هي الحق كما فهم البعض؛ فمعنى ذلك أن لإسرائيل كل الحق في احتلال فلسطين وهذا ما لا يقبله العقل فعدم وجود قوة بجانب الحق لتحميه لا يعني أن الحق ليس حقا والنماذج التي استخدمت القوة في فرض الحق كانت نهايتها كارثية فالثورة الفرنسية خلعت الملك ليحل مكانه الإمبراطور نابليون والثورة الجزائرية خلعت فرنسا ليحل محلها جنرالات الجيش الجزائري والثورة الايرانية خلعت الشاه ليحل مكانه شاه آخر يرتدي عمامة وهكذا.

على السادة منتجي وكتاب الأعمال الدرامية التاريخية أن يعرفوا أن عليهم مسؤولية كبرى وهي تشكيل الوعي التاريخي والحضاري لأمة "اقرأ التي لا تقرأ"، فعليهم ما استطاعوا سبيلا أن يقوموا برقابة ذاتية ويركزوا على النماذج المشرقة في تاريخ الحضارة الإسلامية من العلماء والمفكرين أي على التاريخ الثقافي والاجتماعي؛ لا أن يركزوا فقط على الخلفاء والتاريخ السياسي كما أخطأ صاحب كتاب تاريخ الأمم والملوك فذكر تاريخ الملوك وأغفل تاريخ الأمم 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.