شعار قسم مدونات

"قيصرية التركية".. وجه آخر لإسلام السوق

Turkish President Tayyip Erdogan makes a speech during his meeting with mukhtars at the Presidential Palace in Ankara, Turkey, October 19, 2016. Murat Cetinmuhurdar/Presidential Palace/Handout via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS PICTURE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY. FOR EDITORIAL USE ONLY. NO RESALES. NO ARCHIVE.
"من أجل فهم قيصرية، على المرء أن يقرأ ماكس فيبر"، هكذا صرح شكري قرطيب Sukru Karatepe، عمدة مدينة قيصرية التركية الذي أزاحه انقلاب 1997، في مقابلة معه ضمن الورقة التي قدمتها المبادرة الأوروبية للاستقرار في برلين عن تجربة وسط الأناضول، وتحديدا مدينة قيصرية، الاقتصادية، من حيث ريادة نخبة متدينة للأعمال في تلك المنطقة، وهم من لقبتهم الورقة في عنوانها بـ "الكالفينيين الإسلاميين Islamic Calvinists".

كانت قيصرية قد شهدت ثورة اقتصادية منذ مطلع التسعينات، مستفيدة من السياسات المنفتحة التي انتهجتها وزارة تورغوت أوزال، كما استفادت لاحقا من إصلاحات حكومة العدالة والتنمية، حتى دخلت موسوعة جينس للأرقام القياسية في 2004 عندما شهدت تأسيس 139 عملا جديدا في يوم واحد.

لكن، ما كان ملفتا في تلك التجربة قبل ذلك، هو ذلك التدين الصارم الذي اتسمت به المدينة التي يمكن فيها بالكاد العثور على مطعم أو حانة لتقديم الخمور، وكذلك نخبتها الاقتصادية التي يقول أحد أهم ممثليها، وهو مصطفى بويداق، أحد عمالقة صناع الأثاث: "نحن في قيصرية نشاطر الكالفينية [مذهب إصلاحي مسيحي، يحذر من الإسراف والترف، بينما يحض على العمل] الاعتقاد بأن العمل نوع من العبادة".

ثمة استدعاء كثيف وواعٍ في خطاب تلك النخبة المتدينة للأفكار البروتستانتية/الكالفينية (بحسب قراءة عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر)، "فصعود الرأسمالية الأناضولية يعود إلى التزامها أخلاق العمل البروتستانتية" كما يؤكد مدير فرع جمعية رجال الأعمال "موسياد Musiad"، الداعمة لحزب العدالة والتنمية، بمدينة قيصرية، وهي الأخلاق التي تدعو على سبيل المثال، إلى "عدم الإسراف، ولا مقامرة، وإنما استثمار للأرباح".

يمثل ذلك النمط من التدين البرجوازي الذي يقدس العمل ويحترم الثروة وجها آخر لـ "إسلام السوق" الذي رصده الباحث السويسري باتريك هايني، ولكن بينما يركز هايني في كتابه على الجانب الاستهلاكي في نمط التدين العصري، الذي يستهدف تلبية نهم استهلاكي لدى جماهير متدينة بسلع مغلفة دينيا، تقدم تجربة قيصرية وجها آخر، لا يحتل الاستهلاك صدارته، وإنما التزام صارم بالعمل والإنتاج والاستثمار.

في 2004، وصفت برقية صادرة من السفارة الأمريكية في أنقرة أردوغان بأنه يتبنى مواقف تتسم بالزهو المتعجرف.

يلتقي الوجهان في العزوف عن النضال السياسي. فكثير من رموز تلك النخبة الأناضولية، وبشكل عام أعضاء جمعية رجال الأعمال "توسكون Tuskon"، من المقربين من جماعة الداعية التركي فتح الله كولن. وقد أبدى هؤلاء، ومنهم مصطفى بويداق، حنقهم على سياسات إردوغان الصدامية عقب اندلاع الثورة السورية. وتعرض بويداق وعائلته بالفعل للتوقيف عشية محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا يوليو/تموز الماضي، وجرى التحفظ على مجموعتهم الاقتصادية.

في المقابل، لم يمنع الانغماس في نمط التدين البروتستانتي الطامح إلى الثروة نفسه من قبل رواد الأعمال المقربين من العدالة والتنمية، بل ومن قبل إردوغان نفسه وآخرين من رموز الحزب، من وفائهم لطموحهم الديني الأممي على حساب أجواء الاستقرار التي يحبذها رواد الأعمال الذين يكرهون السياسة بالطبيعة.

وعلى الرغم من كل ما قد قيل عن برجماتية إردوغان والعدالة والتنمية، وتنكرهم في ثياب جد متنوعة، وعن علاقتهم بالولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن فحص تاريخ تلك العلاقة يكشف عن توتر أيديولوجي عميق كامن ومعكر لكل صفو قد يجمع البلدين.

ففي 2004، وصفت برقية صادرة من السفارة الأمريكية في أنقرة بأنه يتبنى مواقف تتسم بالزهو المتعجرف، وأنه يمتلك طموحا لا حدود له ينبع من الاعتقاد بأن الله قد اصطفاه لقيادة تركيا. كان ذلك بالطبع بعد أن رفض البرلمان التركي الطلب الأمريكي بالسماح للقوات الأمريكية بالمرور من الأراضي التركية لغزو العراق، على الرغم من الإغراء والتهديد الاقتصاديين الأمريكيين لتركيا، وهو الموقف الذي أثنى عليه تشومسكي واعتبره جنكيز ألجان "انتصارا لليسار الجديد" (كرم أوكتم، تركيا: الأمة الغاضبة، 2011).
 

إن هذا الصراع بين نمطي تدين متقاطعين، يجمعهما الكثير في الحقيقة، هو ما يقع في الجذر من الأزمة التركية اليوم بعد أن نجح طرفا الخصومة في تحييد اللاعب الثالث، المتمثل في نخبة إسطنبول العلمانية، أو بالأحرى، تجميده واستبعاده من اللعبة.

وهو الصراع كذلك الذي تشهده، وستشهده المنطقة العربية، كلما سنحت مناسبات الجدل السياسي من جديد: هل علينا أن ننشغل بأعمالنا ومشاريعنا في إطار سوق عالمي مفتوح يتمتع بالاستقرار والرخاء بعيدا عن أنواء الأيديولوجيا والسياسة، وأن نتحلى كذلك بالمبدأ الأخلاقي الديني الذي يخلق نمط حياتنا السعيد؟ أم أن طموحات أيديولوجية وقيما أخرى عليها أن تتخذ موضعا متقدما على أجندة أعمالنا المكتظة، وعلينا أن نتحمل في سبيلها كثيرا من المتاعب وأن نفرط في كثير من السلام والرفاهية اللذين لطالما حلمنا بهما؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.